قال : "الثالث : هو ، وذلك إما أن يكون غير متناه أو متناهيا ، فإن كان غير متناه : فإما أن يكون غير متناه من جميع الجهات ، أو من بعض الجهات دون بعض ، فإن كان الأول فهو محال لوجهين : الأول : ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى ، والثاني : يلزم منه أن لا يوجد جسم غيره ، أو أن تتداخل الأجسام وهو يخالط القاذورات وهو محال ، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لوجهين : الأول: ما سنبينه من إحالة بعد لا يتناهى ، والثاني : أنه إما أن يكون اختصاص أحد الطرفين بالنهاية دون الآخر لذاته أو لمخصص من خارج ، فإن كان الأول فهو محال لعدم الأولوية ، وإن كان الثاني فيلزم أن يكون الرب مفتقرا في إفادة مقداره إلى موجب ومخصص ، ولا معنى للبعد غير نفس الأجزاء على [ ص: 200 ] ما تقدم ، فيكون الرب معلول الوجود ، وهو محال . وإن كان متناهيا من جميع الجهات فله شكل ومقدار ، وهو إما أن يكون مختصا بذلك الشكل والقدر لذاته ، أو لأمر خارج ، فإن كان الأول لزم منه اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة ، وإن كان الثاني فالرب محتاج في وجوده إلى غيره ، وهو محال" . أنه لو كان جسما لكان له بعد وامتداد
قلت : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون مختصا بالشكل والمقدار لذاته؟ قوله : إن ذلك يستلزم اشتراك جميع الأجسام فيه ضرورة الاتحاد في الطبيعة ، إنما يصح إذا سلم أن طبيعة الأجسام كلها متحدة ، وهذا ممنوع ، بل باطل ، بل معلوم الفساد بالضرورة والحس ، فإن طبيعة النار ليست طبيعة الماء ، ولا طبيعة الحيوان طبيعة النبات ، وهذا مبني على القول بأن الأجسام متماثلة في الحقيقة ، وهذا لو صح لأغنى عن هذه الوجوه كلها ، وهو في كتابه لما ذكر قول من يقول بتجانس [ ص: 201 ] الأجسام من أهل الكلام المعتزلة والأشعرية قال : إنهم بنوا ذلك على أصلهم : أن الجسم هو الجوهر المؤلف أو الجوهر المؤتلفة ، وأن الجواهر متجانسة ، وأن التأليف من حيث هو تأليف غير مختلف، فالأجسام الحاصلة منها غير مختلفة .
ومعلوم أن هذين الأصلين اللذين بنوا عليهما تماثل الأجسام قد أبطلها هو وغيره ، وهي مما يخالفهم فيها جمهور العقلاء ، فأكثر العقلاء لا يقولون : إن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة ، لا جمهور أهل الملل ولا جمهور الفلاسفة ، بل جمهور أهل الكلام من الهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والكرامية لا يقولون بذلك ، فكيف بمن عدا أهل الكلام من سائر أنواع أهل العلم؟ فإنهم من أعظم الناس إنكارا لذلك .
وكذلك القول بتماثل الجواهر قول لا دليل عليه ، إذ المتنازعون في الجواهر المنفردة : منهم من يقول باختلافها ، ومنهم من يقول بتماثلها .