وفي ذلك للنظار ثلاثة أقوال :
فمن قال بالمركب من الجواهر المنفردة اضطربوا في محل العلم ونحوه من العبد : هل هو جزء مفرد في القلب ، كما يذكر عن ابن الراوندي؟ أو أن الأعراض المشروطة بالحياة إذا قامت بجزء من الجملة اتصف بها سائر الجملة ، كما يقوله المعتزلة؟ أو حكم العرض لا يتعدى محله ، بل يقوم بكل جوهر فرد عرض يخصه من العلم والقدرة ونحو ذلك ، كما يقوله على ثلاثة أقوال . الأشعري؟
ومن لم يقل بالجوهر الفرد لم يلزمه ذلك ، بل يقول : إن العرض القائم بالجسم ليس بمنقسم في نفسه ، كما أن الجسم ليس بمنقسم ، وأما قبوله للقسمة فهو كقبول الجسم للقسمة .
وهؤلاء يقولون : إن الإنسان تقوم به الحياة والقدرة والحس بجميع بدنه ، ويقولون : إن بدن الإنسان ليس مركبا من الجواهر المنفردة ، فلا يرد عليهم ما ورد على أولئك . [ ص: 135 ]
وأما الأعراض القائمة بروحه من العلم والإرادة ونحو ذلك فهي أبعد عن الانقسام من الأعراض ببدنه ، وروحه أبعد عن كونها مركبة من الجواهر المنفردة من بدنه، وإن قيل إنها جسم .
وعلى هذا فإذا قيل : يقوم بها علم واحد بمعلوم واحد كان هذا بمنزلة أن يقال : يقوم بالعين إدراك واحد لمدرك واحد ، وبمنزلة أن يقوم بداخل الأذن سمع واحد لمسموع واحد .
وهذا وغيره مما يجيبون به المتفلسفة الذين قالوا: إن النفس الناطقة لا تتحرك ولا تسكن، ولا تصعد ولا تنزل، وليست بجسم، فإن عمدتهم على ذلك كونها يقوم بها ما لا ينقسم ، كالعلم بما لا ينقسم، [فيجب أن لا ينقسم] وإذا لم تنقسم امتنع كونها جسما. وكلا المقدمتين ممنوعة ، كما قد بسط الجواب عن هذه الحجة التي هي عمدتهم في غير هذا الموضع .
ولما عسر جواب هذه على الرازي ونحوه من أهل الكلام ، اعتقدوا أن القول بالمعاد مبني على إثبات الجوهر الفرد، لظنهم أنه لا يمكن الجواب عن هذه إلا بإثبات الجوهر الفرد ، وأن القول بالمعاد يفتقر إلى القول بأن أجزاء البدن تفرقت ثم اجتمعت .
وليس الأمر كذلك ، فإن وأهل الحديث والصوفية، وجمهور العقلاء، وكثير من [ ص: 136 ] طوائف أهل الكلام إثبات الجوهر الفرد مما أنكره أئمة السلف والفقهاء، كالهشامية والضرارية والنجارية والكلابية وكثير من الكرامية .
والقول بمعاد الأبدان مما اتفق عليه أهل الملل ، فكيف يكون القول بمعاد الأبدان مستلزما للقول بالجوهر الفرد؟ وبسط هذه الأمور له موضع آخر .
والمقصود هنا التنبيه على ما ذكره من البحث مع الكرامية . وحينئذ فيقال: قول الكرامية الذي حكاه عنهم من أنه يستحيل تعري الباري عن الأقوال الحادثة في ذاته بعد قيامها، قول لا يوافقهم عليه كل من وافقهم على أصل هذه المسألة ، فإن الموافقين لهم على أصل المسألة هم أكثر الناس ، وأئمتهم من الطوائف كلها ، حتى من أئمة أهل السنة والحديث وأئمة الفلاسفة، أهل الشرع وأهل الرأي. وأما هذا القول فموافقهم عليه قليل .