وأما وجود علل ومعلولات لا تتناهى: فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء.
إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى، فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة، والقمر اثنتي عشرة مرة، وهذا مشهود، والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة، ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة، فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا، وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك، والأقل من غير المتناهي متناه، والزائد على المتناهي متناه، وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة. [ ص: 362 ]
وقد يقال: هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس، فإن كليهما لا يتناهى مع التفاضل. وهو الوجه الخامس الذي سيأتي.
لكن بينهما فروق مؤثرة:
منها: أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها، لكن زادت حوادث اليوم، فغاية تلك: أن يكون ما لا ابتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئا بعد شيء، وأما هنا: فهذه الدورات ليست تلك.
ومنها: أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس، مع اشتراكهما في عدم البداية، وهذا التطبيق ممتنع. فإن حقيقته: أنا نقدر تماثلهما وتفاضلهما، فإنه إذا طبق أحدهما على الآخر لزم التماثل مع التفاضل، لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية، وهما متفاضلان، وهذا تقدير ممتنع، بخلاف الدورتين، فإنهما هنا مشتركان في عدم البداية، وفي حد النهاية، فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء، فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير، حتى يقال: هو تقدير ممتنع، بخلاف ذلك. ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية، ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين، فهما متفقان من هذين الوجهين، مفترقان من ذينك الوجهين. [ ص: 363 ]
وحينئذ فيقال: الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية، لا يجعلون لها آخرا تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين، بل يلزمهم قطعا أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلة، فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال، وكذلك دورات الشمس والقمر، مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة، ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة، فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل، وهذا أقل من هذا بقدر متناه، وهذا أزيد من هذا بقدر متناه، فإذا كان الأقل من غيره متناهيا لزم أن يكون كل من الدورات متناهيا.
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى ؛ فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء، وأنه محدث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وأنه ينشق وينفطر ؛ فتبطل حركة الشمس والقمر، وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية.
وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية، ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث، إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حركة المعين يدل [ ص: 364 ] على تناهي الجنس، وليس الأمر، فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك، وهو دليل على حدوثه، وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية، فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي. وابن سينا،
فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء.
وهو قول جمهور الفلاسفة، ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة قليلة، ولهذا كان الدليل على حدوثه قويا، والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفا، بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث، فإن أدلتها ضعيفة، واعتراضات غيره عليها قوية.
وهذا مما يبين أن وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه، كالذين جعلوا من السمع: أن الرب لم يزل معطلا عن الكلام والفعل، لا يتكلم بمشيئته، ولا يفعل بمشيئته، بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته. ما جاءت به الرسل هو الحق، وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول،
فجعل هؤلاء هذا قول الرسل، وليس هو قولهم، وجعل هؤلاء من المعقول: أنه يمتنع دوام كونه قادرا على الكلام والفعل بمشيئته.