والدليل على أن الأمر كذلك أن الإنسان إذا تعرضت دواعيه إلى الحركات المتضادة فإنه يتوقف في كل موضع، لا يمكنه أن يترك إلا عند حصول المرجح.
[ ص: 328 ]
وكما قال من جعل المرجح هو الإرادة: إن الإرادة اقتضت ترجيح ذلك المقدور على غيره، ولا يمكن أن يقال: الإرادة لماذا رجحت ذلك الشيء على غيره؟ لأنه لو رجحت غيره عليه كان هذا السؤال عائدا، وعلى هذا التقدير يلزم أن كون الإرادة مرجحة معلل بعلة أخرى، وذلك محال؛ لأن كون الإرادة مرجحة صفة نفسية لها، كما أن كون العلم بحيث يعلم به المعلوم صفة نفسية له، وذلك أمر ذاتي له، ولما استحال تعليل الصفات الذاتية استحال تعليل كون الإرادة مرجحة.
قال: وهذا الجواب باطل أيضا، لأنا لا نعلل أصل كون الإرادة مرجحة، وإنما نعلل كونها مرجحة لهذا الشيء على ضده، ولا يلزم من تعليل خصوص المرجحية، تعليل أصل المرجحية، ألا ترى أن الممكن لما دار بين الوجود والعدم فإنا نحكم أنه لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، ولا يكون تعليل ذلك تعليلا لأصل كونه ممكنا، فكذلك ههنا.
قلت: نظير هذا
nindex.php?page=treesubj&link=28785_30458_30239قول من يقول من القدرية المعتزلة الشيعة ونحوهم: إن الله تعالى جعل العبد مختارا، وخلقه مختارا، إن شاء اختار هذا الفعل، وإن شاء اختار هذا الفعل، فهو يختار أحدهما باختياره.
فيقال لهم: هو جعله أهلا للاختيار، وقابلا للاختيار، وجائزا منه الاختيار، وممكنا منه الاختيار، ونحو ذلك، أو جعله مختارا لهذا الفعل على هذا؟.
[ ص: 329 ]
فإن قالوا بالأول قيل لهم: فوجود اختيار هذا الفعل دون هذا لا بد له من سبب، وإذا كان العبد قابلا لهذا ولهذا، فوجود أحد الاختيارين دون الآخر لا بد له من سبب أوجبه.
وإن قالوا بالثاني اعترفوا بالحق، وأن ما فيه من اختيار الفعل المعين هو من الله تعالى، كما قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=28لمن شاء منكم أن يستقيم nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=29وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [التكوير: 28-29] .
ولهذا إذا حقق القول عليهم وقيل لهم: فهذا الاختيار الحادث الذي كان به هذا الفعل، وهو إرادة العبد الحادثة، من المحدث لها؟
قالوا: الإرادة لا تعلل.
فقلت لمن قال لي ذلك منهم: تعني بقولك: لا تعلل بالعلة الغائية، أي: لا تعلم غايتها، أو لا تعلل بالعلة الفاعلية، فلا يكون لها محدث أحدثها؟.
أما الأول فليس الكلام فيه هنا، مع أنه هو يقول بتعليلها بذلك، وأما الثاني فإنه معلوم الفساد بالضرورة، فإنه
nindex.php?page=treesubj&link=29620من جوز في بعض الحوادث أن تحدث بلا فاعل أحدثها لزمه ذلك في غيره من الحوادث، وهذا المقام حار فيه هؤلاء المتكلمون.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَعَرَّضَتْ دَوَاعِيهِ إِلَى الْحَرَكَاتِ الْمُتَضَادَّةِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتْرُكَ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْمُرَجَّحِ.
[ ص: 328 ]
وَكَمَا قَالَ مَنْ جَعَلَ الْمُرَجِّحَ هُوَ الْإِرَادَةَ: إِنَّ الْإِرَادَةَ اقْتَضَتْ تَرْجِيحَ ذَلِكَ الْمَقْدُورَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْإِرَادَةُ لِمَاذَا رَجَّحَتْ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَلَى غَيْرِهِ؟ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَّحَتْ غَيْرَهُ عَلَيْهِ كَانَ هَذَا السُّؤَالُ عَائِدًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَلْزَمُ أَنَّ كَوْنَ الْإِرَادَةِ مُرَجِّحَةً مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مُحَال؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْإِرَادَةِ مُرَجِّحَةً صِفَةً نَفْسِيَّةً لَهَا، كَمَا أَنَّ كَوْنَ الْعِلْمِ بِحَيْثُ يُعْلَمُ بِهِ الْمَعْلُومُ صِفَةً نَفْسِيَّةً لَهُ، وَذَلِكَ أَمْرٌ ذَاتِيٌّ لَهُ، وَلَمَّا اسْتَحَالَ تَعْلِيلُ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ اسْتَحَالَ تَعْلِيلُ كَوْنِ الْإِرَادَةِ مُرَجَّحَةً.
قَالَ: وَهَذَا الْجَوَابُ بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّا لَا نُعَلِّلُ أَصْلَ كَوْنِ الْإِرَادَةِ مُرَجِّحَةً، وَإِنَّمَا نُعَلِّلُ كَوْنَهَا مُرَجِّحَةً لِهَذَا الشَّيْءِ عَلَى ضِدِّهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْلِيلِ خُصُوصِ الْمُرَجِّحِيَّةِ، تَعْلِيلُ أَصْلِ الَمُرَجِّحِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُمْكِنَ لَمَّا دَارَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَإِنَّا نَحْكُمُ أَنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ إِلَّا بِمُرَجَّحٍ، وَلَا يَكُونُ تَعْلِيلُ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِأَصْلِ كَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَكَذَلِكَ هَهُنَا.
قُلْتُ: نَظِيرُ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=28785_30458_30239قَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ الشِّيعَةِ وَنَحْوِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْعَبْدَ مُخْتَارًا، وَخَلَقَهُ مُخْتَارًا، إِنْ شَاءَ اخْتَارَ هَذَا الْفِعْلَ، وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ هَذَا الْفِعْلَ، فَهُوَ يُخْتَارُ أَحَدَهُمَا بِاخْتِيَارِهِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هُوَ جَعَلَهُ أَهْلًا لِلِاخْتِيَارِ، وَقَابِلًا لِلِاخْتِيَارِ، وَجَائِزًا مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَمُمْكِنًا مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، أَوْ جَعَلَهُ مُخْتَارًا لِهَذَا الْفِعْلِ عَلَى هَذَا؟.
[ ص: 329 ]
فَإِنْ قَالُوا بِالْأَوَّلِ قِيلَ لَهُمْ: فَوُجُودُ اخْتِيَارِ هَذَا الْفِعْلِ دُونَ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَابِلًا لِهَذَا وَلِهَذَا، فَوُجُودُ أَحَدِ الِاخْتِيَارَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ أَوْجَبَهُ.
وَإِنْ قَالُوا بِالثَّانِي اعْتَرَفُوا بِالْحَقِّ، وَأَنَّ مَا فِيهِ مِنَ اخْتِيَارِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ هُوَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=28لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ nindex.php?page=tafseer&surano=81&ayano=29وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التَّكْوِيرِ: 28-29] .
وَلِهَذَا إِذَا حُقِّقَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ: فَهَذَا الِاخْتِيَارُ الْحَادِثُ الَّذِي كَانَ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْعَبْدِ الْحَادِثَةُ، مَنِ الْمُحْدِثُ لَهَا؟
قَالُوا: الْإِرَادَةُ لَا تُعَلَّلُ.
فَقُلْتُ لِمَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ مِنْهُمْ: تَعْنِي بِقَوْلِكَ: لَا تُعَلَّلُ بِالْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، أَيْ: لَا تُعْلَمُ غَايَتُهَا، أَوْ لَا تُعَلَّلُ بِالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةَ، فَلَا يَكُونُ لَهَا مُحْدِثٌ أَحْدَثَهَا؟.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ هُنَا، مَعَ أَنَّهُ هُوَ يَقُولُ بِتَعْلِيلِهَا بِذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=29620مَنْ جَوَّزَ فِي بَعْضِ الْحَوَادِثِ أَنْ تَحْدُثَ بِلَا فَاعِلٍ أَحْدَثَهَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَهَذَا الْمَقَامُ حَارَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ.