قلت:
nindex.php?page=treesubj&link=34084_33677ونفي المماثلة قد يتضمن إثبات صفات الكمال للخالق، لا يثبت للمخلوق منها شيء، فكما أن في صفات المخلوق ما لا يثبت للخالق، فكذلك في صفات الخالق ما لا يثبت للمخلوق.
لكن هذا الضرب لا يمكن الناس معرفته في الدنيا، فلهذا لم يذكر.
قال: فنقول: أما ما صرح به الشرع من نفي صفات المخلوق عنه، فما كان ظاهرا من أمره أنه من صفات النقائص، فمنها الموت، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=58وتوكل على الحي الذي لا يموت [الفرقان: 58].
ومنها النوم وما دونه مما يقتضي الغفلة والسهو عن الإدراكات والحفظ للموجودات، وذلك مصرح به في قوله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255لا تأخذه سنة ولا نوم [البقرة: 255].
ومنها النسيان والخطأ، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52لا يضل ربي ولا ينسى [طه: 52].
[ ص: 247 ]
والوقوف على انتقاء هذه النقائص هو قريب من العلم الضروري.
وذلك أن ما كان قريبا من هذه من العلم الضروري، فهو الذي صرح الشرع بنفيه عنه سبحانه وتعالى، وأما ما كان بعيدا من المعارف الأولى الضرورية، فإنما نبه عليه بأن عرف أنه من علم الأقل من الناس، كما قال في غير ما آية من الكتاب العزيز:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم: 30]: مثل قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [غافر: 57].
ومثل قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [الروم: 30].
قال: فإن قيل: فما الدليل على انتفاء هذه النقائص عنه، أعني: الدليل الشرعي؟ قلنا: الدليل عليه ما يظهر من أن
[ ص: 248 ] الموجودات محفوظة لا يتخللها اختلال ولا فساد، ولو كان الخالق يدركه خطأ أو غفلة، أو سهو أو نسيان لاختلت الموجودات.
وقد نبه سبحانه على هذا المعنى في غير ما آية من كتابه. فقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=41إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده [فاطر: 41]، قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [البقرة: 255].
قال: فإن قيل: فما تقولون في صفة الجسمية: هل هي من الصفات التي صرح الشرع بنفيها عن الخالق تعالى؟ أم هي من المسكوت عنها؟ أو أنه لم يصرح بنفيها ولا إثباتها، ولكن صرح بأمور تلزم -يعني الجسمية في بادي الرأي منها- فنقول: إنه من البين من أمر هذه الصفة أنها من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أن الشرع
[ ص: 249 ] قد صرح بالوجه واليدين في غير آية من كتابه، وهذه الآيات قد توهم أن الجسمية هي له من الصفات التي فضل فيها الخالق المخلوق، كما فضله في صفة القدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات، التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتم وجودا.
ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقد في الخالق أنه جسم لا يشبه الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.
وهؤلاء أيضا قد ضلوا إذ صرحوا بما ليس حقا في نفسه، وما يوهم أيضا التشابه بين الخالق والمخلوق. وإنما صرح الشرع بأشياء توهمها لا يضر، فتوهمها من كان من الناس لا يقدر أن يتصور موجودا ليس بجسم، ولا أيضا إذا سمع تلك الأشياء خيف عليه أن يتطرق ذهنه إلى القول بالجسمية.
وهذه هي حال جمهور الناس؛ لأن الذين يتطرق لهم من ذلك إثبات الجسمية هم قليل من الناس، وهؤلاء ففرضهم الوقوف على الدلائل التي توجب نفي الجسمية.
قُلْتُ:
nindex.php?page=treesubj&link=34084_33677وَنَفِيُ الْمُمَاثَلَةِ قَدْ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لِلْخَالِقِ، لَا يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَكَمَا أَنَّ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ مَا لَا يَثْبُتُ لِلْخَالِقِ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْخَالِقِ مَا لَا يَثْبُتُ لِلْمَخْلُوقِ.
لَكِنَّ هَذَا الضَّرْبَ لَا يُمْكِنُ النَّاسَ مَعْرِفَتُهُ فِي الدُّنْيَا، فَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ.
قَالَ: فَنَقُولُ: أَمَّا مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ نَفْيِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ عَنْهُ، فَمَا كَانَ ظَاهِرًا مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ النَّقَائِصِ، فَمِنْهَا الْمَوْتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=58وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الْفُرْقَانُ: 58].
وَمِنْهَا النَّوْمُ وَمَا دُونَهُ مِمَّا يَقْتَضِي الْغَفْلَةَ وَالسَّهْوَ عَنِ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحِفْظِ لِلْمَوْجُودَاتِ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةُ: 255].
وَمِنْهَا النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=52لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طَهَ: 52].
[ ص: 247 ]
وَالْوُقُوفُ عَلَى انْتِقَاءِ هَذِهِ النَّقَائِصِ هُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ.
وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ الشَّرْعُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا مَا كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْمَعَارِفِ الْأُولَى الضَّرُورِيَّةِ، فَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِأَنَّ عَرَّفَ أَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْأَقَلِّ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الرُّومُ: 30]: مِثْلَ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=57لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٌ: 57].
وَمِثْلَ قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=30فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسَ لا يَعْلَمُونَ [الرُّومُ: 30].
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ هَذِهِ النَّقَائِصِ عَنْهُ، أَعْنِي: الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ؟ قُلْنَا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا يَظْهَرُ مِنْ أَنَّ
[ ص: 248 ] الْمَوْجُودَاتِ مَحْفُوظَةٌ لَا يَتَخَلَّلُهَا اخْتِلَالٌ وَلَا فَسَادٌ، وَلَوْ كَانَ الْخَالِقُ يُدْرِكُهُ خَطَأٌ أَوْ غَفْلَةٌ، أَوْ سَهْوٌ أَوْ نِسْيَانٌ لَاخْتَلَّتِ الْمَوْجُودَاتُ.
وَقَدْ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ. فَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=41إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنَّ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فَاطِرٌ: 41]، قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=255وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [الْبَقَرَةُ: 255].
قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي صِفَةِ الْجِسْمِيَّةِ: هَلْ هِيَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الشَّرْعُ بِنَفْيِهَا عَنِ الْخَالِقِ تَعَالَى؟ أَمْ هِيَ مِنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا؟ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِنَفْيِهَا وَلَا إِثْبَاتِهَا، وَلَكِنْ صَرَّحَ بِأُمُورٍ تَلْزَمُ -يَعْنِي الْجِسْمِيَّةَ فِي بَادِي الرَّأْيِ مِنْهَا- فَنَقُولُ: إِنَّهُ مِنَ الْبَيِّنِ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، وَهِيَ إِلَى التَّصْرِيحِ بِإِثْبَاتِهَا فِي الشَّرْعِ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى نَفْيِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ
[ ص: 249 ] قَدْ صَرَّحَ بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ تُوهِمُ أَنَّ الْجِسْمِيَّةَ هِيَ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي فَضَلَ فِيهَا الْخَالِقُ الْمَخْلُوقَ، كَمَا فَضَلَهُ فِي صِفَةِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، الَّتِي هِيَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، إِلَّا أَنَّهَا فِي الْخَالِقِ أَتَمُّ وُجُودًا.
وَلِهَذَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْخَالِقِ أَنَّهُ جِسْمٌ لَا يُشْبِهُ الْأَجْسَامَ، وَعَلَى هَذَا الْحَنَابِلَةُ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ تَبِعَهُمْ.
وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا قَدْ ضَلُّوا إِذْ صَرَّحُوا بِمَا لَيْسَ حَقًّا فِي نَفْسِهِ، وَمَا يُوهِمُ أَيْضًا التَّشَابُهَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. وَإِنَّمَا صَرَّحَ الشَّرْعُ بِأَشْيَاءَ تَوَهُّمُهَا لَا يَضُرُّ، فَتَوَهَّمَهَا مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَوْجُودًا لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَا أَيْضًا إِذَا سَمِعَ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَطَرَّقَ ذِهْنُهُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْجِسْمِيَّةِ.
وَهَذِهِ هِيَ حَالُ جُمْهُورِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يَتَطَرَّقُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْجِسْمِيَّةِ هُمْ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ فَفَرْضُهُمُ الْوُقُوفُ عَلَى الدَّلَائِلِ الَّتِي تُوجِبُ نَفْيَ الْجِسْمِيَّةِ.