ومن الأشياء ما نعلمها [ ص: 130 ] بمشاعرنا بلا دليل، ومنها ما نفتقر في العلم به إلى دليل، فلا نكون عالمين به حتى نعلم الدليل، الذي يستلزم في علمنا به علمنا بالمدلول عليه.
لم يستفد شيئا من صفاته المقدسة من غيره، ولم يحتج إلى سواه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن كل ما سواه. والرب تعالى علمه من لوازم نفسه المقدسة، وكذلك قدرته،
وإذا قدر أن علمه بالملزوم شرط في علمه باللازم، كما أن وجود الملزوم شرط في وجود اللازم، وإبداعه للملزوم شرط في إبداعه للازم، كما أن خلقه للأب من حيث هو أب شرط في خلق الابن، فالابن لا يكون ابنا إن لم يكن له أب، فلا بد في خلق الابن من خلق الأب قبله.
فهو سبحانه خالق الملزوم واللازم، وعالم بالملزوم واللازم، وكل ما سواه هو مما خلقه بمشيئته وقدرته، فليس مفتقرا في شيء من الأمور إلى شيء سواه.
وقول القائل: علمه بهذا شرط في علمه بهذا معناه أنه لا يوجد علمه بهذا، إلا مع وجود علمه بهذا، ليس المراد به: أنه يكون العلم بأحدهما متقدما موجودا، مع عدم العلم الآخر، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم المشروط، بل لا بد من وجوده معه بخلاف العلة.
فإذا قيل: ليس علمه بهذا علة لهذا، وإنه لم يستفد علمه بهذا من علمه بهذا، ولا استدل على هذا بهذا، لم يكن في هذا نفي كون أحد [ ص: 131 ] العلمين شرطا في الآخر؛ أي ملزوما له، بل ولا نفي كون كل منهما شرطا في الآخر وملازما له، كما أن العلم والقدرة أو الإرادة، كل منهما لا يوجد إلا مع الآخر، وهو ملازم له، فوجوده شرط في وجوده بهذا الاعتبار، وإن لم يكن أحدهما علة لوجود الآخر.
وكذلك علمه بنفسه المقدسة، هو مستلزم لعلمه بمخلوقاته، وشرط في علمه بها، فلا يكون عالما بمخلوقاته، إلا وهو عالم بنفسه، وإن لم يكن علمه بنفسه هو العلة لعلمه بمخلوقاته، ولم يكن هو محتاجا أن يستدل بعلمه بنفسه على علمه بمخلوقاته، بل نفس ذاته المقدسة اقتضت العلم بهذا وبهذا.
وإن كان أحد الأمرين شرطا في الآخر، فكونه شرطا في الآخر، غير كونه علة، فإن الشرط لا يجب أن يتقدم على المشروط، والعلة يجب تقدمها على المعلول. والشرط لا يوجب المشروط، والعلة توجب المعلول.
فما علمه من مخلوقاته، فعلمه به مشروط بعلمه بنفسه، ويلزم من علمه بنفسه علمه به، ويلزم من علمه به علمه لنفسه، وإن لم يكن أحد العلمين يجب أن يقدم على الآخر، ولا يكون هو العلة في وجود الآخر، ولا يحتاج أن يستدل بأحد المعلومين على الآخر.
فلهذا كان علمه بأنه خالق يستلزم العلم بالمخلوقات من وجهين: [ ص: 132 ] من جهة أن علمه بأنه خالق لا يكون إلا مع علمه بالمخلوقات؛ لأن العلم بالإضافة يتضمن العلم بالمتضايفين.
ومن جهة أنه عالم بنفسه علما تاما.
وكونه خالقا من صفات نفسه، فلا يكون عالما بنفسه علما تاما، إلا مع علمه بأنه خالق، ولا يكون عالما بأنه خالق، إلا مع علمه بالمخلوقات.