الوجه التاسع: أنه إذا قدر واجب الوجود يقدر على الأفعال الحادثة شيئا فشيئا، وقدر آخر لا يمكنه إحداث شيء -قضى صريح العقل أن من أمكنه الإحداث شيئا بعد شيء، هو أكمل ممن لا يمكنه إحداث شيء.
وإذا قال القائل: هذا كان فيه شيء بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا شيئا فشيئا، وذاك كله بالفعل ليس فيه شيء بالقوة.
قيل له: كل ما لهذا بالفعل هو للآخر، فإن ذاته وصفاته التي يمكن قدمها لازمة له.
وأما الحوادث التي لا يمكن وجودها إلا شيئا فشيئا، فهذه يمتنع أن تكون بالفعل قديمة أزلية، فلا تكون بالفعل [ ص: 24 ] في الأزل، بل لا يمكن أن تكون إلا بالقوة، ثم تخرج إلى الفعل بحسب الإمكان شيئا فشيئا. وإذا لم يمتز من قدر عدم هذه له بوصف كمال بل المتصف بها أكمل، كان نفي هذه عن واجب الوجود نفي صفة كمال لا إثبات كمال له.
وهؤلاء النفاة المعطلة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية يظنون أن ما نفوه عن الرب هو كمال له وهو تعظيم له، وذلك من جهلهم، بل إثبات ما نفوه هو الكمال الذي يكون مثبته معظما للرب.
ولكن هم في ذلك نظير إخوانهم من معطلة النبوات، الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء وقالوا: الله أعظم من أن يرسل رسولا من البشر.
قال تعالى: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [يونس: 2].
أولم يعلموا أن وأعظم إثباتا للكمال من كون ذلك عنه ممكن له ومن امتناعه عن فعله؟ إرسال رسول من البشر يبلغهم رسالات ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم، أبلغ في قدرة الرب ورحمته بعباده، وإحسانه إليهم،
وكذلك كونه يخلق الأشياء شيئا بعد شيء أبلغ من كونه لا يمكنه إحداث شيء، بل عند كثير من الناس -أو أكثرهم- كونه يخلق أكمل من كونه لا يخلق.
كما قال تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [النحل: 17]. [ ص: 25 ]
وحينئذ فإذا قيل: جنس الفعل لازم، وإنما الحادث أعيانه.
كان أن يقال: جنس العلم لازم بطريق الأولى والأحرى.
بل إذا قيل: جنس الخلق حادث.
أمكن أن يقال: نفس العلم لازم، سواء قيل بحدوث شيء معين عند وجود المعلومات، أم لا.
فذاك أبعد عن منافاة وجوب الوجود، من كونه فاعلا لما لم يكن فاعلا له.