قال أبو البركات: فأما حيث لا كثرة ولا غيرية بل وحدة محضة، فلا يتصور نقص. وكيف والنقص من الصفات الإضافية، حيث يقال: نقص كذا، كما يقال: زاد كذا؟ (فأما الجواب النظري البرهاني، فهو أن نقول: ليس كماله بفعله، بل فعله بكماله وعن كماله، ومن فعله عقله، فعقله عن كماله الذاتي، الذي لا وجه لتصور النقص فيه ولا القول به، فإن النقص في ذات المبدأ الأول غير متصور لأنه واحد، والنقص إنما يتصور في موضع الزيادة والنقصان، والزيادة والنقصان معا إنما هي من صفات الكثرة والغيرية، حيث تتصور في الكثرة قلة، وفي الزيادة نقصان، كل واحد بقياس الآخر.
فالنقص المتصور في الذات الأحدية، أي نقص يكون؟ ونقص ماذا [ ص: 417 ] يكون؟ وكيف يتصور؟ لا أقول: كيف يقال؟ فإن القائل قد يقول ما لا يتصوره، لكن العالم لا يعلم ما لا يتصوره إثباتا ولا نفيا.
فإن قيل: إن النقص ها هنا متصور بقياس ذاته، وهو أن لا يعقل كذا لولا كذا المعقول، أي لا يعقل لولا المعقول. قلنا: إن الكمال الذي له ليس هو بأن يعقل كل موجود، بل كونه بحيث يعقل كل موجود، فإن كان المعقول موجودا عقله، وإن فرض غير موجود، لزمه فرض أن لا يعقله، لا لأنه لا يعقله، أي لا يقدر على عقله، بل النقص من جانب العدم المفروض، فكماله وقدرته له بذاته، ويلزم عنهما ما له بالقياس إلى موجوداته، فما كمل بإيجاد مخلوقاته، بل وجدت مخلوقاته عن كماله.
وليس هذا القول في المبدأ الأول فقط، بل وفينا أيضا، فإنا لسنا نكمل بكل معقول، بل إنما كمالنا بقدرتنا على أن نعقله وإنما نكمل بما نعقله بالفعل، حيث نعقل بالفعل معقولات أشرف منا، وذلك نوع آخر من الكمال، فإن العقل له بذاته الكمال، الذي هو قدرته على أن يعقل، وله به أن يعقل، وذلك أمر له من ذاته: عقل بالفعل أم لم يعقل.
وله كمال عرضي إضافي اكتسابي، بما يعقل معقولات هي أشرف [ ص: 418 ] منه، وذلك ليس للأول؛ إذ ليس أشرف منه في الموجودات، حتى يشرف ويكمل بعقله له، وليس إذا ارتفع هذا عنها ارتفع ذاك، فإن ذاك هو الأول، والذي بالذات -أعني كونه بحيث يعقل، وقدرته على أن يعقل -فهو كماله الذاتي الذي به شرف وجل وعلا عما لا يعقل. والآخر هو الثاني. والذي بالعرض، أعني كماله بمعقولاته وشرفه بها، فإن كوننا بحيث نعقل ما نعقله، شرف لنا وكمال، بالقياس إلى ما ليس له ذلك.
وكثير من المعقولات التي نعقلها لا نشرف بها، وليس الشرف الحاصل من الفعل، هو الشرف الذي بالقدرة، فإن الذي بالقدرة قبل الفعل ومعه وبعده، والذي بالفعل يحصل مع الفعل وبه وبعده، ولا يكون قبله، فما شرف الله بمخلوقاته، بل خلق بشرفه، أعني: ما خلق فشرف، بل شرف فخلق، وكذلك ما علم فكمل، بل كمل فعلم.
قلت: ملخص هذا أن الكمال هو الذي يجب له أزلا وأبدا، وهو لازم لا يتجدد منه شيء، وهو كونه بحيث يفعل ويعقل، لا نفس وجود الفعل المعين والعلم المعين، وهذا هو القدرة على الفعل والعقل، وهذا له بذاته لا يتوقف على شيء من الموجودات.
ولهذا قال: إن النقص غير متصور في الذات الواحدة، فإن النقص يستلزم التعدد، ولا تعدد هناك.
لكن قد يقال على هذا: إنه، وإن كان الذات واحدة، فإذا كانت الصفات متعددة، كالقدرة والعلم، أمكن تقدير أحدهما دون الآخر، فالكمال هو بوجود الجميع، والنقص معقول بعدم بعض ذلك. [ ص: 419 ]
لكن ما قاله لازم لمن ينفي الصفات من الجهمية والفلاسفة، ويقدر ذاتا لا صفة لها، أو وجودا مطلقا لا يختص بأمر، فهذا لا يعقل فيه كمال ولا نقص.
وأرسطو من نفاة الصفات، وقد قدر أنه يكمل تارة ولا يكمل أخرى، وجعل أحد الأمرين أكمل له من الآخر. وأصحاب أرسطو يقولون: هذا إنما يمكن تقديره في الأمور الإضافية والسلبية.
فيقال لهم: أما الإضافات فإنها تتجدد عندكم. فإن قلتم: إنها كمال. لزم أن يتجدد له الكمال، وهو خلاف أصلكم.
وإن قلتم: ليست بكمال بطل تقدير الكمال لامتناع تقدير النقصان.
ولكن قد يقال: تقدير النقصان في الواحد المسلوب الصفات غير متصور، كما قال أبو البركات. لكن يمكن تقدير كمال منتظر ونفيه، وهو الذي نفاه أرسطو.
وأبو البركات جعل الكمال في نفس القدرة اللازمة له، لا فيما ينتظر.
لكن أبو البركات من مثبتة الصفات، فما ذكره، وهو أن عدم إمكان النقص في الواحد من كل وجه، تقريرا لامتناع النقص عليه، وامتناعه بوجه كماله، فيكون فعله عن كماله.