وكلامه في مسألة العلم معروف مذكور في كتابه «ما بعد الطبيعة» وقد ذكره بألفاظه أبو البركات صاحب «المعتبر» وغيره، ورد ذلك عليه أبو البركات، مع تعظيمه له. [ ص: 398 ]
وأرسطو ينكر علم الرب بشيء من الحوادث مطلقا.
وكلامه في ذلك وحججه من أفسد الكلام كما سنذكره إن شاء الله.
ولكن وأمثاله زعموا أنه إنما يعلم الكليات والجزئيات: يعلمها على وجه كلي. وهؤلاء فروا من وقوع التغير في علمه. ابن سينا
وأما من قبل أرسطو من المشائين، فلا ريب أن في كلامهم ما هو خير وأقرب إلى الأنبياء من كلام أرسطو.
ولهذا نقل عنهم أنهم كانوا يقولون بحدوث الأفلاك، وأن أرسطو أول من قال بقدمها من المشائين.
وأما احتجاجه على إثبات علم الرب بالجزئيات بالإنذارات والمنامات، فاستدلال ضعيف، فإن وأمثاله يدعون أن ما يحصل للنفوس البشرية من العلم والإنذارات والمنامات، إنما هو فيض العقل الفعال والنفس الفلكية، وإذا أرادوا أن يجمعوا بين الشريعة والفلسفة، قالوا: إن النفس الفلكية هي اللوح المحفوظ، كما يوجد مثل ذلك في كلام ابن سينا في كتاب «الإحياء» و«المضنون» وغير ذلك من كتبه. أبي حامد
وكما يوجد في كلام من سلك سبيله من الشيوخ المتفلسفة المتصوفة، يذكرون اللوح المحفوظ، ومرادهم به النفس الفلكية، ويدعون أن العارف قد يقرأ ما في اللوح المحفوظ ويعلم ما فيه.
كما قد بسط في موضع آخر؛ إذ تنزيهه هنا للفلاسفة المشائين عن أن يكون هذا كلامهم، هو تعصب جسيم منه لهم. [ ص: 399 ] ومن علم دين الإسلام، الذي بعث الله به رسله، علم أن هذا من أبعد الأمور عن دين الإسلام،
وهذا نظر سيئ في نقل أقوال الناس، وليس تحقيق هذا من غرضنا هنا.
والفلاسفة طوائف متفرقون لا يجمعهم قول ولا مذهب، بل هم مختلفون أكثر من اختلاف فرق اليهود والنصارى والمجوس.
وكلام المشائين في الإلهيات كلام قليل الفائدة، وكثير منه بلا حجة.
والنقل المذكور موجود في كتب المتبعين لهم كابن سينا وأضرابه. وقد نظرت فيما نقل عنهم من الأقوال في العلم فوجدتها عدة مقالات، لكن من الناس من يحكي عنهم قولين أو ثلاثة، ومن الناس من لا يحكي إلا قولا واحدا.
وقد وجدت أربعة مقالات منقولة عنهم صريحا في كتب متعددة.
فنقل طائفة عنهم وغيره في العلم ثلاث مقالات. كالشهرستاني
قالوا:
وذهب قوم منهم إلى أنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات. ذهب قدماء الفلاسفة إلى أنه عالم بذاته فقط، ثم من ضرورة علمه بذاته يلزم منه الموجودات، وهي غير معلومة عنده، أي لا صورة لها عنده على التفصيل والإجمال
[ ص: 400 ] وذهب قوم إلى أنه يعلم الكلي والجزئي جميعا، على وجه لا يتطرق إلى علمه نقص وقصور.
فهذا القول الثالث هو شبيه بالقول الذي اختاره وأما القول الثاني والأول فهما اللذان حكاهما ابن رشد. عن الفلاسفة. الغزالي
قال: منهم من قال: لا يعلم إلا ذاته، ومنهم من يسلم أنه يعلم غير ذاته.
قال: وهو الذي اختاره فإنه زعم أنه يعلم الأشياء كلها بنوع كلي، لا يدخل تحت الزمان، ولا يعلم الجزئيات التي يوجب تجدد الإحاطة بها تغيرا في ذات العالم. ابن سينا،
وذكر أنهم اتفقوا على أنه لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن، وما كان، ويكون. الغزالي
قال: فمن ذهب منهم إلى أنه لا يعلم إلا نفسه، لا يخفى فساد هذا من مذهبه، ومن ذهب منهم إلى أنه يعلم غيره، كما اختاره فقد زعم أنه يعلم الأشياء علما كليا، لا يدخل تحت الزمان، ولا يختلف بالماضي والمستقبل والآن، ومع ذلك زعم أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، إلا أنه يعلم الجزئيات بنوع كلي. ابن سينا،
قلت: ولأبي البركات صاحب «المعتبر» مقالة في العلم رد فيها على أرسطو. ونصر فيها أنه يعلم الكليات والجزئيات. [ ص: 401 ]
وما ذكره عنهم من أنهم يرون أن العلم سبب الإنذار بالجزئيات. ابن رشد
فيقال: أما الفلسفة الموجودة في كتب وأمثاله، ففيها أن ذلك من العقل الفعال والنفس الفلكية، وعندهم ذلك هو المنذر بذلك، ويسمون ذلك اللوح المحفوظ، ومن ذلك ينزل عندهم الوحي على الأنبياء، ومن ذلك كلم موسى. وكثير من ابن سينا المتصوفة الذين سلكوا مسلكهم قد دخل ذلك في كلامهم.
فإن كان فريق غير هؤلاء المتفلسفة يجعل ذلك من علم الله، فلا ريب أن من جعل الله منذرا لعباده بالجزئيات، لزم أن يكون عالما بها، فإن الإعلام بالشيء فرع على العلم به، وهذا ما يثبت القول الثالث المحكي عنهم.