[ ص: 274 ] ثم ذكر سؤالا وجوابا مضمونه: إن الجوهر الجسماني لا قوام له إلا بطبيعته التي قوامها بحركته الخاصة به.
قال: فإن ظن أحد أن هذا الجوهر إذ قدرت صورته الطبيعية باطلة منه، انحل إلى شيء آخر أبسط منه، ليس في طبيعته حركة خاصة به، فيكون حينئذ في ذاته، لا معلول، لكن المركب فيه معلول.
فأرسطوطاليس يقول: إن هذا الظن باطل محال؛ لأن ذلك البسيط إنما يوجد حينئذ في الوهم الفكري فقط. فأما في خاصة نفسه مفردا، فلا وجود له بالحقيقة، ولا قوام لذاته. وليس بهذا المعنى فقط يترك هذا الظن، لكنه يرى أنه يوجد في ذلك البسيط الذي ينحل إليه الجوهر الجسماني في الوهم، إذا توهمنا فساد صورته تلك قبول صورة أخرى، فهو معلول في ذلك القبول من المحرك الأول.
فإن ظن ظان أنه معلول من جهة ذلك القبول فقط، قلنا: فإن أنزلنا إزالة ذلك القبول نفسه من أنه قد بطل، وجب أن تبطل ذاته، يعني فتفسد وتنحل طبيعته التي بها هو حينئذ ما هو؛ إذ كانت ذاته تلك حينئذ إنما هي التي في طبيعتها القبول. فإن قيل أيضا: إنها تنحل إلى شيء آخر كان الجواب فيه كما أجبنا في الانحلال الأول، وليس يمكن أن ينحل هذا دائما إلى ما لا نهاية له.
قال: فقد تبين من هذا أن كل جوهر جسماني معلول في جوهره، ووجوده، وبقائه للعلة التي هي المبدأ الأول بحركة الجميع.
قلت: فهذا هو تقريرهم لوجود العلة الأولى، التي هي المبدأ الذي [ ص: 275 ] يسميه المتأخرون: واجب الوجود بذاته، وهي طريقة المتقدمين من المشائين.
وأما الطريقة المشهورة عند المتأخرين: وهي الاستدلال بمطلق الوجود على الواجب، فهذه هي التي سلكها ومتبعوه، ثم هذه طريقة ابن سينا أرسطو وأتباعه المشائين: مضمونها ثم إن أن كل جسم لا يتقوم إلا بطبيعته، ولا تتقوم طبيعته إلا بحركة إرادية، ولا تتقوم تلك إلا بمحبوب معشوق لا يتحرك، أرسطو أورد على نفسه سؤالا بأنه يمكن تقدير بطلان طبيعة الجسم الخاصة وبطلان حركته، بانحلاله إلى شيء أبسط منه، فلا يكون المحرك علة لذاته، بل علة للتركيب فقط.
وأجاب بأن البسيط إنما يوجد في الذهن لا في الخارج. وأجاب أتباعه بجواب ثان، وهو أنه يكون فيما انحل إليه قبول، والقبول حركة.
وهذا الجواب ساقط، فإنه إذا قدر أن فيه قبولا، لم يجب أن يكون ذلك حركة إرادية شوقية. وإذا لم تكن الحركة إرادية شوقية لم يستلزم وجود محبوب، بل يستلزم وجود فاعل مبدع. وهم لم يثبتوا ذلك.
وكذلك تقدير أرسطو تقدير فاسد، فإنه إذا قدر أن الحركة لا تتم إلا بطبيعة تستلزم الحركة الإرادية، مع أن في تقدير هذا كلاما ليس هذا موضع بسطه، لكن بتقدير أن هذا سلم له، فغاية ما في هذا أن يكون الجسم المتحرك بالإرادة مفتقرا إلى المعشوق الذي هو غايته وأنه لا يتم وجوده إلا به، فيكون وجوده شرطا في وجوده، بأن يقال: لا قوام للجسم إلا بطبيعته، ولا قوام لطبيعته إلا بحركته، ولا قوام لحركته إلا [ ص: 276 ] بالمحرك المنفصل الذي هو محبوب معشوق، فغاية ما في هذا أنه لا بد من وجود محبوب معشوق، ولا يمكن وجود الجسم المتحرك إلا به، لكن مجرد المحبوب المنفصل لا يكفي في وجود الجسم الممكن الذي ليس بواجب بذاته، ولا في وجود طبيعته، ولا في وجود احتياجه إلى المبدع لذلك، ولا دليلا على وجود المبدع لذلك كله، بل اكتفوا بوجود المعشوق المنفصل.
وهذا مقام يتبين فيه جهل هؤلاء القوم وضلالهم، لكل من تدبر نصوص كلامهم الموجود في كتبهم، الذي ينقله أصحابه عنهم، فإنا نحن لا نعرف لغة اليونان، ولم ينقل ذلك عنهم بإسناد يعرف رجاله، ولكن هذا نقل أئمة أصحابهم الذين يعظمونهم ويذبون عنهم بكل طريق. وقد نقلوا ذلك إلينا وترجموه باللسان العربي، وذكروا أنهم بينوه وأوضحوه وقدروه وقربوه إلى أن تقبله العقول ولا ترده، فكيف إذا أخذ كلام أولئك على وجهه؟ فإنه يتبين فيه من الجهل بالله، أعظم مما يتبين من كلام المحسنين له.