قلت: كما قال تعالى: لفظ الانقضاء والقضاء قد يعنى به الكمال والتمام، فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [سورة الجمعة: 10]، فإذا قضيتم مناسككم [سورة البقرة: 200] ويقال: قد انقضت هذه السنة، وانقضى شهر رمضان، ونحو ذلك.
فعلى هذا لا يكون المنقضي الذي كمل وتم إلا ما له ابتداء؛ إذ ما لا أول له لا يعقل تمامه وكماله. وقد يعنى بلفظ الانقضاء: الانتهاء والمضي والزوال. فمعلوم أن الحوادث التي كانت قبلها قد انقضت ومضت وانتهت، بمعنى أنها لم يبق منها شيء.
وعلى هذا فقول القائل: كل حركة لا تكون حتى يكون قبلها حركات لا نهاية لها، معناه: حتى توجد قبلها حركات لا ابتداء لها. ليس [ ص: 92 ] المراد: لا آخر لها، بل المراد: ليس لها ابتداء، وهذا صحيح، وهو أول المسألة.
والمنازع يقول: إذا كانت الحركات لا أول لها، فالمعنى أنه قد مضى في الماضي ما لا ابتداء له، كما يقال: إنه سيوجد في المستقبل ما لا انتهاء له. وهذا هو قوله، فما الدليل على بطلان هذا؟
فهناك اشتراك واشتباه في الألفاظ والمعاني، إذا ميزت ظهر المعنى. ولفظ (الدخول في الوجود) قد يتناول ما كمل وجوده وما لم يكمل وجوده، ويتناول ما وجد معا وما وجد متعاقبا. لكن قول القائل: إن الماضي دخل في الوجود دون المستقبل، عند منازعه فرق لا تأثير له. فإن أدلته النافية لإمكان دوام ما لا يتناهى، كالمطابقة والشفع والوتر وغير ذلك، يتناول الأمرين، وهي باطلة في أحدهما، فيلزم بطلانها في الآخر، ومن اعتقد صحتها مطلقا، كأبي الهذيل طردوها في الماضي والمستقبل، وهو خلاف دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل. والجهم،
وهذا الذي يذكره هؤلاء المتفلسفة إنما يتوجه فيما مضى ولم يبق كالحركات، فأما النفوس الإنسانية المجتمعة، إذا قالوا بأنه الآن في الوجود منها ما لا يتناهى وهو مجتمع، وأن ذلك لا يزال يزيد، لم يكن ما ذكروه في الحركات متناولا لهذا.
ولهذا فر من ذلك إلى أن جعل النفوس واحدة بالذات، وشبهها بالضوء مع الشمس، والضوء عرض. وفساد هذا القول معلوم، وليس هذا موضع بسطه. [ ص: 93 ] ابن رشد
ولهذا قال هنا: (وهذا كله ليس بينا في هذا الموضع، وإنما سقناه ليعرف أن ما توهم القوم من هذه الأشياء أنه برهان فليس برهانا، ولا هو من الأقاويل التي تليق بالجمهور، أعني البراهين البسيطة التي كلف الله تعالى بها الجميع من عباده الإيمان به). ابن رشد
قال: (فقد تبين لك من هذا أن هذه الطريقة ليست برهانية صناعية ولا شرعية).
وأيضا فإن خصماءهم لا يضعون قبل الدورة المشار إليها دورات لا [ ص: 94 ] نهاية لها؛ لأن من أصولهم أن ما لا نهاية له الجائز الوجود، هو الذي يوجد أبدا شيء خارج عنه، أعني أنه يمكن أن يزاد عليه دائما، فهم إنما يضعون أن قبل هذه الدورة المشار إليها دورة، وقبل تلك الدورة دورة، وذلك إلى غير نهاية على التعاقب على محل واحد، أي: متى وجدت دورة وجدت قبلها في المحل دورة وبعدها دورة، وأن هذا المرور إلى غير نهاية، كالحال في المستقبل، فإنا نقول: إن بعد هذه الدورة دورة وبعدها دورة وذلك إلى غير نهاية، ولا نقول: إن بعد هذه الدورة دورات لا نهاية لها، فيلزم عن هذا أن يكون بعد الدورة التي كانت اليوم بمدة عشرة آلاف سنة دورات لا نهاية لها، وبعد الدورة المشار إليها الآن، فيكون ما لا نهاية لها أعظم مما لا نهاية له وذلك محال، وكذلك الحال في الأدوار الماضية.