وقد تتفق الطائفة على قول يكون متضمنا للقدح فيمن تعظمه ولا يعلم ذلك، كما يتفق مثل ذلك للنصارى والرافضة، وأمثالهم من جهال الطوائف، الذين اعتقدوا عقائد فاسدة فظنوها حقا، وكذب بعضهم فنقلها لهم عن المسيح أو فصدقوا ذلك الناقل، لا لثبوت صدقه عندهم، لكن لموافقته لهم فيما يعتقدونه. علي،
وهذا سبب كثرة الكذب والضلال بين النصارى والرافضة والغلاة من العامة وغيرهم، وإذا كان كذلك فهذه الأقوال التي في التوراة: إن كانت مخالفة لصريح العقل لم يكن في إضافتها إلى موسى إلا بطريق القدح فيه، فيمتنع اتفاق اليهود على نقلها عنه، وإن لم تكن مخالفة لصريح العقل، لم يكن حينئذ في نقلها عن موسى محذور.
فثبت أنه لا يجوز تكذيب نقل هذه عن موسى لاعتقاده مخالفتها بالعقل الصريح. [ ص: 92 ]
فإن قيل: إن الذي كذبها لهم كان يعتقد صدقها، أو كان غرضه إضلالهم، كما أن كثيرا من هذه الأمة يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أكاذيب لاعتقاده أنها حق صحيح يجب على الناس قبوله، فيكذب أحاديث في ذلك ليقبل الناس ما يعتقده، كما وقع مثل هذا لطوائف من أهل البدع والكلام، وبعض المتفقهة والمتزهدة، مثل الجويباري الذي كان يكذب للمرجئة والكرامية وغيرهم أحاديث توافق قولهم، ومثل بعض المتفقهة الذين كذبوا أحاديث توافق رأيهم لاعتقادهم أنه صدق، ومثل وقالوا: نحن كذبنا له ما كذبنا عليه، ومثل الذين طائفة من أهل الزهد والعبادة كذبوا أحاديث في الترغيب والترهيب، أو لغرض آخر. كذبوا أحاديث في فضائل الأشخاص والبقاع والأزمنة وغير ذلك، لظنهم أن موجب ذلك حق،
وآخرون من الزنادقة والملاحدة كذبوا أحاديث مخالفة لصريح العقل ليهجنوا بها الإسلام ويجعلوها قادحة فيه، مثل حديث عرق الخيل الذي فيه أنه خلق خيلا فأجراها فعرقت، فخلق نفسه من ذلك العرق، فإن هذا الحديث وأمثاله لا يكذبه من يعتقد صدقه لظهور [ ص: 93 ] كذبه، وإنما كذبه من مقصوده إظهار الكذب بين الناس، كما يقولون: إنه وضعه بعض أهل الأهواء، ليقول: إن أهل الحديث يروون مثل هذا، ومع هذا فكل أهل الحديث متفقون على لعنة من وضعه.
ومما يشبه ذلك حديث الجمل الأورق وأنه ينزل عشية عرفة على جمل أورق، فيصافح المشاة ويعانق الركبان، وحديث رؤيته لربه في الطواف، أو رؤيته ليلة المعراج بعين رأسه وعليه تاج يلمع، بل وكل حديث فيه رؤيته لربه ليلة المعراج عيانا، فإنها كلها أحاديث مكذوبة موضوعة، باتفاق أهل المعرفة بالحديث، لكن الذين وضعوها يمكن أنهم كانوا زنادقة، فوضعوها ليهجنوا بها من يرويها ويعتقدها من الجهال، ويمكن أن الذين وضعوها كانوا من الجهال الذين يظنون مثل هذا حقا، وأنهم إذا وضعوه قووا الحق، كما وضع كثير من هؤلاء أحاديث في فضائل الصحابة: أبي بكر وعمر لا سيما ما وضعوه في فضائل وعثمان، من الأكاذيب، فإنه لا يكاد يحصى، مع أن في فضائلهم الصحيحة ما يغني عن الباطل، ومثل ما وضعوه في مثالبهم، لا سيما ما وضعته علي الرافضة في مثالب الخلفاء وغيرهم، فإن فيه من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله.
والمقصود أن المعترض يقول: يمكن أن يكون الذين كذبوا ما في [ ص: 94 ] التوراة من الصفات على موسى، كانوا يعتقدونها فكذبوها، أو كان مقصودهم إضلال اليهود وبث الكذب فيهم لإفساد دينهم.
قيل: هذا القدر يمكن أن يفعله الواحد والاثنان والطائفة القليلة، ولكن هؤلاء إذا حدثوا به عامة اليهود، مع معرفتهم واختلافهم، فلا بد إذا كان معلوما فساده بصريح العقل أن يرده بعضهم أو يستشكله، ويقول: إن مثل هذا يقدح في موسى، فحيث قبلوه كلهم علم أنهم لم يكونوا يعتقدون أنه فاسد في صريح العقل.
ومن المعلوم عند أهل الكتاب أن قدماءهم لم يكونوا ينكرون ما في التوراة من الصفات، وإنما حدث فيهم بعد ذلك، لما صار فيهم جهمية: إما متفلسفة مثل موسى بن ميمون وأمثاله، وإما معتزلة مثل أبي يعقوب البصير وأمثاله، فإن اليهود لهم بالمعتزلة اتصال وبينهما اشتباه، ولهذا كانت اليهود تقرأ الأصول الخمسة التي للمعتزلة، ويتكلمون في أصول اليهود بما يشابه كلام المعتزلة، كما أن كثيرا من زهاد الصوفية يشبه النصارى ويسلك في زهده وعبادته من الشرك والرهبانية ما يشبه سلوك النصارى.
ولهذا أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: [ ص: 95 ] اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [سورة الفاتحة: 6-7] .
والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال، ولهذا أنكر القرآن على كل من الطائفتين ما وقعت فيه من ذلك، فلو كان ما في التوراة من هذا الباب لكان إنكار ذلك من أعظم الأسباب، وكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لذلك من أعظم الصواب، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم ينكر ذلك، من جنس إنكار النفاة. واليهود تشبه الخالق بالمخلوق في صفات النقص.
فنقول: إثبات هذه الصفات يقتضي التجسيم والتجسيد والتشبيه والتكييف، والله منزه عن ذلك، فإن عامة النفاة إنما يردون هذه الصفات بأنها تستلزم التجسيم.