أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون
أوبقت الرجل: إذا أنشبته في أمر يهلك فيه، فالإيباق في السفن هو تغريقها، والضمير في: "كسبوا" هو لركابها من البشر، أي: بذنوب البشر، ثم ذكر تعالى ثانية: ويعف عن كثير مبالغة وإيضاحا، وقرأ ، نافع ، وابن عامر ، والأعرج ، وأبو جعفر وشيبة : "ويعلم" بالرفع على القطع والاستئناف، وحسن ذلك إذا جاء بعد الجزاء. وقرأ الباقون والجمهور: "ويعلم" بالنصب على تقدير: "أن"، وهذه الواو ونحوها هي التي يسميها الكوفيون "واو الصرف"، لأن حقيقة واو الصرف هي التي تريد بها عطف [ ص: 521 ] فعل على اسم، فيقدر "أن" لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيجيء عطفه على الاسم، وذلك نحو قول الشاعر:
........................... ... تقضي لبانات ويسأم سائم
فكأنه أراد: وسآمة سائم، فقدر: "وأن يسأم" ليكون ذلك بتأويل المصدر الذي هو "سآمة"، قال : حسن النصب إذا كان قبله شرط وجزاء، وكل واحد منهما غير واجب. أبو علي
وقوله تعالى: ما لهم من محيص هو معلومهم الذي أراد أن يعلمه المجادلون في آياته عز وجل، و"المحيص": المنجى وموضع الروغان، يقال: حاص إذا راغ، وفي حديث هرقل: ثم وعظ تعالى [ ص: 522 ] عباده وحقر عندهم أمر الدنيا وشأنها، ورغبهم فيما عنده من نعيمهم والمنزلة الرفيعة لديه، وعظم قدر ذلك في قوله تعالى: "فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب"، فما أوتيتم من شيء الآية.
وقوله تعالى: والذين يجتنبون عطف على قوله تعالى: "الذين آمنوا" ، وقرأ جمهور الناس: "كبائر" على الجمع، قال هي كل ما توعد فيه بالنار، وقال الحسن: : أو كان فيه حد من الحدود، وقال الضحاك رضى الله عنه: الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية، وقال ابن مسعود علي بن أبي طالب رضى الله عنهم: هي كل ما ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وقرأ وابن عباس ، حمزة ، والكسائي : "كبير" على الإفراد الذي هو اسم الجنس، وقال وعاصم رضى الله عنهما: كبير الإثم: هو الشرك والفواحش، قال ابن عباس : الزنى، وقال السدي : موجبات الحدود، ويحتمل أن يكون "كبير" اسم جنس بمعنى "كبائر"، فتدخل فيه الموبقات السبع على ما قد تفسر من أمرها في غير هذه الآية. مقاتل
وقوله تعالى: وإذا ما غضبوا هم يغفرون حض على كسر الغضب والتدرب في إطفائه، إذ هو جمهرة من جهنم، وباب من أبوابها، ومن جاهد هذا العارض من نفسه حتى غلبه فقد كفي هما عظيما في دنياه وآخرته. وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: "لا تغضب"، قال: زدني، قال: "لا تغضب"، قال: زدني، قال: "لا تغضب"،
وقوله تعالى: والذين استجابوا لربهم : مدح لكل من آمن بالله تعالى وقبل شرعه، ومدح تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم، لأن في ذلك اجتماع الكلمة والتحاب واتصال الأيدي والتعاضد على الخير، وفي الحديث: ، وقوله تعالى: "ما تشاور قوم إلا هدوا لأحسن ما بحضرتهم" ومما رزقناهم ينفقون معناه: في [ ص: 523 ] سبيل الله وبرسم الشرع وعلى حدوده في القوام الذي مدحه الله تعالى في غير هذه الآية.
وقال : قوله تعالى: ابن زيد والذين استجابوا لربهم الآية نزلت في الأنصار، والظاهر أن الله تعالى مدح كل من اتصف بهذه الصفة كائنا من كان، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين إليها؟ رضي الله تعالى عن جميعهم بمنه.