قوله عز وجل:
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين
"وآية" معناه: علامة ودليل، ورفعها بالابتداء، وخبرها في قوله: "لهم"، و"أنا" بدل من "آية"، وفيه نظر، ويجوز أن تكون "أن" مفسرة لا موضع لها من الإعراب. و"الحمل": منع الشيء أن يذهب سفلا، وذكر الذرية لضعفهم عن السفر فالنعمة فيهم أمكن.
وقرأ ، نافع ، وابن عامر : "ذرياتهم" بالجمع، وقرأ الباقون بالإفراد، وهي قراءة والأعمش ، طلحة ، والضمير المتصل بالذريات هو ضمير الجنس، كأنه قال: ذريات جنسهم أو نوعهم، هذا أصح ما يتجه في هذا، وخلط بعض الناس في هذا حتى قالوا. الذرية تقع على الآباء، وهذا لا يعرف لغة. وعيسى
وأما معنى الآية; فيحتمل تأويلين: أحدهما قاله - رضي الله عنهما - وجماعة، وهو أن يريد بالذريات المحمولين أصحاب ابن عباس نوح عليه السلام في السفينة، ويريد بقوله: "من مثله" السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة، وإياها 0 [ ص: 251 ] أراد بقوله: وإن نشأ نغرقهم ، والتأويل الثاني قاله ، مجاهد ، وروي عن والسدي أيضا، هو أن يريد بقوله: ابن عباس أنا حملنا ذريتهم الآية، السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة، ويريد بقوله: وخلقنا لهم الآية، الإبل وسائر ما يركب، فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلغ إلى الأقطار فقط، ويعود قوله: وإن نشأ نغرقهم على السفن الموجودة في الناس، وأما من خلط القولين فجعل الذرية في الفلك في قوم نوح عليه السلام في سفينته، وجعل "من مثله" في الإبل، فإن هذا نظر فاسد يقطع به قوله: وإن نشأ نغرقهم ، فتأمله.
و"الفلك" جمع، والإفراد على وزنه، ولكن ليست حركات الجمع حركات الإفراد. و"المشحون": الموقر، و"من" في قوله: "من مثله" يتجه على أحد التأويلين أن تكون للتبعيض، وعلى التأويل الآخر أن تكون لبيان الجنس، فانظره، ويقال: الإبل مراكب البر.
و"الصريخ" هنا بناء الفاعل، بمعنى: المصرخ، وذلك أنك تقول: صارخ بمعنى مستغيث، ومصرخ بمعنى مغيث، ويجيء صريخ مرة بمعنى هذا ومرة بمعنى هذا; لأن فعيلا من أبنية اسم الفاعل، فمرة: يجيء من صرخ إذا استغاث، ومرة: يجيء من أصرخ إذا أغاث.
وقوله: إلا رحمة قال : نصب على الاستثناء، كأنه قال: إلا أن نرحمهم، وقال الكسائي : نصب رحمة على المفعول من أجله، كأنه قال: إلا لأجل رحمتنا إياهم. وقوله: "متاعا" عطف على قوله: الزجاج "رحمة"، و"إلى حين" يريد إلى آجالهم المضروبة لهم.
والكلام تام في قوله: وإن نشأ نغرقهم ، وقوله: فلا صريخ لهم استئناف إخبار عن السائرين في البحر، ناجين كانوا أو مغرقين، فهم بهذه لا نجاة لهم إلا برحمة الله وليس قوله: فلا صريخ لهم مربوطا بالمغرقين، وقد يصح ربطه به، والأول أحسن فتأمل.
ثم ابتدأ الإخبار عن عتو قريش بقوله: وإذا قيل لهم الآية. و"ما بين أيديهم" قال ، مقاتل : هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن، و"ما خلفهم" هو عذاب الآخرة التي تأتي من بعدهم في الزمن، وهذا هو النظر، وقال وقتادة خوفوا بما مضى من [ ص: 252 ] ذنوبهم وبما يأتي منها، وهذا نحو الأول في المعنى; لأن التخويف بالذنب إنما هو من عقابه والمجازاة عليه. "ما بين أيديهم" هو الآخرة، و"ماخلفهم" عذاب الأمم. الحسن:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فجعل الترتيب كأنهم يسيرون من شيء إلى شيء، ولم يعتبر وجود الأشياء في الزمن، وهذا النظر يكره عليه قوله تعالى: مصدقا لما بين يديه من التوراة ، وإنما المطرد أن يقاس ما بين اليد والخلف بما يسوقه الزمن، فتأمله. وجواب "إذا" في هذه الآية محذوف، تقديره: أعرضوا، ويفسره سبحانه: إلا كانوا عنها معرضين ، و"الآيات" العلامات والدلائل.