قوله عز وجل:
ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير
المعنى: إن كل من دعوتم إلها من دون الله لا يملكون مثقال ذرة، ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن، فكأنه قال: ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم.
واختلف المتأولون في قوله: إلا لمن أذن له ، فقالت فرقة: معناه: لمن أراد له، وقالت فرقة: معناه: لمن أذن له أن يشفع هو.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
واللفظ يعمهما: لأنه إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك. وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله: "لمن"، تقول: شفعت لفلان.
وقرأ ، أبو عمرو ، وحمزة بضم الألف من " أذن" -، وقرأ والكسائي ، ابن كثير ، ونافع : "أذن" بفتحها، والضمير في وابن عامر "قلوبهم" عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم، بل هم عبدة ومستسلمون أبدا حتى إذا فزع عن قلوبهم.
وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية، أعني قوله تعالى: حتى [ ص: 183 ] إذا فزع عن قلوبهم إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل بالأمر يأمر الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة، وقيل: خوف أن تقوم الساعة، فإذا فرغ ذلك فزع عن قلوبهم، أي: أطير الفزع عنها وكشف، فيقول بعضهم لبعض ولجبريل: ماذا قال ربكم ؟ فيقول المسؤولون: قال الحق وهو العلي الكبير ، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: الذين زعمتم لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها، حتى قال بعضهم في الكفار - بعد حلول الموت - فزع عن قلوبهم بفقد الحياة فرأوا الحقيقة، وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم، فيقال لهم حينئذ: ماذا قال ربكم ؟ فيقولون: قال الحق، يقرون حين لا ينفعهم الإقرار. وقالت فرقة: الآية في جميع العالم، وقوله: "حتى إذا" يريد: في القيامة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث. وهذان بعيدان.
وقرأ الجمهور: "فزع" بضم الفاء وكسر الزاي، ومعناه: أطير الفزع عنهم، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال، لأن "فعل" أصلها الإدخال في الشيء، [ ص: 184 ] وقولك: فزعت زيدا معناه: أزلت الفزع عنه. وكذلك: جزعته: أزلت الجزع عنه، ومنه الحديث: "فدخل على ابن عباس فجزعه"، ومنه مرضت فلانا: أزلت المرض عنه. وانظر أن مضارع هذه الأفعال يلحق بـ"تحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوف". وقرأ عمر : "فزع" بفتح الفاء والزاي وشد الزاي، وهي قراءة ابن عامر ، ابن مسعود ، وابن عباس ، وطلحة وأبي المتوكل الناجي، واليماني. وقرأ - بخلاف -: "فزع" بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها، كأنه بمعنى: أقلع، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال: معنى هذه القراءة: فزع الشيطان عن قلوبهم، أي بادر. وقرأ الحسن البصري أيوب عن أيضا: "فرغ" بالفاء وبراء مشددة وبغين منقوطة، من التفريغ، قال الحسن : رواها عن أبو حاتم نحو من عشرة أنفس، وهي قراءة الحسن أبي مجلز. وقرأ ، عن مطر الوراق "فزع" على بناء الفعل للفاعل، وهي قراءة الحسن: ، وقرأ مجاهد أيضا: "فرغ" بالراء المهملة مخففة، من الفراغ. قال الحسن : وما أظن الثقات رووها عن أبو حاتم على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظه فيها. وقرأ الحسن : "حتى إذا افرنقع"، وهي قراءة عيسى بن عمر . ومعنى هذا كله: وقع فراغها من الفزع والخوف، ومن قرأ شيئا من هذا على بناء الفعل للمفعول فقوله تعالى: ابن مسعود عن قلوبهم في موضع رفع، و"افرنقع" معناه: تفرق.
وقوله تعالى: "ماذا" يجوز أن تكون (ما) في موضع نصب بـ"قال"، ويصح أن [ ص: 185 ] تكون في موضع رفع بمعنى: أي شيء قال؟ والنصب في قولهم: "الحق" على نحوه في قوله تعالى: ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ; لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل، وحققوا هنا أن ثم ما قيل، وباقي الآية تحميد وتمجيد.