وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور
هذه الآية وما بعدها وصف لحالهم قبل مجيء السيل، وهي أن الله تبارك وتعالى - مع ما كان منهم - منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها، وجعلهم أربابها، وقدر فيها السير بأن قرب القرى بعضها من بعض، حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام ليبيت في قرية ويقيل في قرية، أخرى، فلا يحتاج إلى حمل زاد، و"القرى": المدن، ويقال للجمع الصغير قرية أيضا، وكلها من: قريت، أي جمعت، والقرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع من المفسرين، والقرى الظاهرة هي التي بين الشام ومأرب، وهي الصغار التي هي البوادي. قال رضي الله عنهما: هي قرى عربية بين ابن عباس المدينة والشام، وقاله ، واختلف في معنى "ظاهرة"، فقالت فرقة: معناه: مستعلية مرتفعة في الإكام والظراب، وهي أشرف القرى، وقالت فرقة: يظهر بعضها من بعض، فهي أبدا في قبضة عين المسافر، لا يخلو من رؤية شيء منها بهذا الوجه. والذي يظهر لي أن معنى "ظاهرة": خارجة عن المدن، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن، فإنما فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن; لأن ظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي والفحوص، ومنه قولهم: نزلنا بظاهر فلانة، أي: خارجا عنها. وقوله: "ظاهرة" نظير تسمية الناس إياها البادية والضاحية، ومن هذا قول الشاعر: الضحاك
فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر
[ ص: 179 ] يعني الخارجين عن بطحاء مكة، وفي حديث الاستسقاء: "وجاء أهل الضواحي يشتكون: الغرق الغرق".
وقوله تعالى: وقدرنا فيها السير ، هو ما ذكرناه من أن المسافر فيها كان يبيت في قرية ويقيل في أخرى على أي طريق سلك، لا يعوزه ذلك. وقوله تعالى: سيروا فيها معناه: قلنا لهم. و[آمنين] معناه: من الخوف من الناس المفسدين، وآمنين من الجوع والعطش وآفات المسافر.
ثم حكى عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر، وهي طلب البعد بين الأسفار، والإخبار بأنها بعيدة على القراءات الأخرى، وذلك أن ، نافعا وعاصما، ، وحمزة قرؤوا: "باعد بين أسفارنا" بكسر العين على معنى الطلب أيضا، فهاتان معناهما الأشر بأنهم ملوا النعمة بالقرب، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وفي كتاب والكسائي أنهم قالوا: لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهر وأكثر قيمة، وقرأ الرماني ابن السميفع، ، وسفيان بن حسين وسعيد بن أبي الحسن - أخو - الحسن : "ربنا" بالنصب "بعد بين أسفارنا" بفتح الباء وضم العين، ونصب "بين" [ ص: 180 ] أيضا. وقرأ وابن الحنفية سعيد بن أبي الحسن - من هذه الفرقة -: "بين" بالرفع وإضافته إلى الأسفار، وقرأ ، ابن عباس ، وأبو رجاء ، والحسن البصري : أيضا "ربنا" بالرفع "باعد" بفتح العين والدال، وقرأ وابن الحنفية ، ابن عباس أيضا، وابن الحنفية وعمرو بن فايد، : "ربنا" بالرفع "بعد" بفتح العين وشدها وفتح الدال. فهذه القراءة معناها الإخبار بأنهم استبعدوا القريب، ورأوا أن ذلك غير مقنع لهم، حتى كأنهم أرادوها متصلة بالدور، وفي هذا تعسف وتسخط على أقدار الله تعالى وإرادته، وقلة شكر على نعمته، بل هي مقابلة النعمة بالتشكي. وفي هذا المعنى ونحوه مما اقترن بكفرهم ظلموا أنفسهم ففرقهم الله تعالى، وخرب بلادهم، وجعلهم أحاديث، ومنه المثل السائر: "تفرقوا أيادي سبأ"، و"أيدي سبأ" ويقال المثل بالوجهين، وهذا هو تمزقهم كل ممزق، وروي ويحيى بن يعمر فلما جاء السيل على مأرب وهو اسم بلدهم تيامن منهم ستة قبائل، أي: إذ تبددت في بلاد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن سبأ أبو عشر قبائل"، اليمن، وتشاءمت منها أربعة، فالمتيامنة كندة والأزد وأشعر ومذحج وأنمار التي منها بجيلة وخثعم، وطائفة قيل لها: حمير، بقي عليها اسم الأب الأول، والتي تشاءمت لخم وجذام وغسان وخزاعة، نزلت تهامة، ومن هذه المتشائمة أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، ومنها عاملة وغير ذلك.
ثم أخبر تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام وأمته - على جهة التنبيه - أن هذه القصص فيها آيات وعبر لكل مؤمن على الكمال، ومن اتصف بالصبر والشكر فهو المؤمن الذي لا تنقصه خلة جميلة بوجه.