فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين
الضمير عائد على سليمان عليه السلام، و"قضينا" بمعنى: أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود، وإلا فالقضاء الأخير به متقدم في الأزل، وروي عن ، ابن عباس رضي الله عنهما في قصصهما أن وابن مسعود سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس، وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة، فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره، ويأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها، أو تغرس لتتناسل، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها: ما أنت؟ فقالت: أنا الخروب، خرجت لخراب ملكك هذا، فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حي، ولكنه لا شك حضور أجلي، فاستعد عليه السلام وغرسها، وصنع منها عصا لنفسه، وجد في عبادته، وجاءه بعد ذلك ملك الموت، فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه، وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من زجاج تشف، وحصل فيها يتعبد، ولم يجعل لها بابا، وتوكأ على عصاه على وضع يتماسك معه وإن مات، ثم توفي صلى الله عليه وسلم على تلك الحالة، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة، وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل، وكانوا لا يقربون من القبة، ولا يدخلون من كوى كانت في أعاليها، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام في القبة، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن، وروي أن القبة كان لها باب، وأن سليمان أمر بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس، وأن يترك على حاله تلك سنة، وكان غرضه في هذه السنة أن يعمل الجن عملا كان قد بدئ في زمن داود عليه السلام وقدر أنه بقي منه عمل سنة، فأحب الفراغ منه، فلما مضى لموته سنة خر عن عصاه، والعصا قد أكلته الأرض، وهي الدودة التي تأكل العود، فرأت الجن انحداره، فتوهمت موته، فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق، ثم خطر فعاد فقرب أكثر، ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتا فأخبر بموته، فنظر ذلك الأجل فقدر أنه سنة، وقال بعض الناس: جعلت الأرضة فأكلت يوما وليلة، ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلت منذ سنة، فهكذا كانت دلالة دابة الأرض على موته. وللمفسرين: في هذه القصص إكثار عمدته [ ص: 170 ] ما ذكرناه. وقال كثير من المفسرين دابة الأرض : سوسة العود، وهي الأرضة. وقرأ ، ابن عباس والعباس بن الفضل: "الأرض" بفتح الراء، جمع أرضة، فهذا يقوي ذلك التأويل. وقالت فرقة: دابة الأرض : حيوان من الأرض، شأنه أن يأكل العود، وذلك موجود، وليست السوسة من دواب الأرض. وقالت فرقة منها اللغوي: "الأرض" هنا مصدر "أرضت الأثواب والخشب" إذا أكلتها الأرضة، كأنه قال: دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة، على جهة التسوس. أبو حاتم
وفي مصحف : "أكلت منسأته"، والمنسأة هي العصا، ومنه قول الشاعر: عبد الله
إذا دببت على المنساة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
أمون كعيدان الإران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد
[ ص: 171 ] ويروى: "وعنس" كألواح وخففت همزتها جملة، وكان القياس أن تخفف بين بين، وقرأ باقي السبعة على الأصل بالهمز. وقرأ : "منساته" بفتح الميم وبغير همز، وقرأت فرقة: "منسأته" بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة، كما قال حمزة امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وقرأت فرقة: "من سأته" بفصل "من" وكسر التاء في " سأته"، وهذه تنحو إلى: سية القوس; لأنه يقال: سية وساة، فكأنه قال: "من سأته" ثم سكن الهمزة، ومعناها: من طرف عصاه، أنزل العصا منزلة القوس.
وقال بعض الناس: إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعا، ولكنه كان في بيت مبني عليه، وأكلت الأرضة عتبة الباب حتى خر البيت فعلم موته، وهذا ضعيف.
وقرأ الجمهور: "تبينت الجن" بإسناد الفعل إليها، أي: بان أمرها، كأنه قال: افتضحت الجن، أي للإنس، هذا تأويل ويحتمل أن يكون قوله: تبينت الجن بمعنى: علمت الجن وتحققت، ويريد بالجن: جمهورهم والفعلة منهم والخدمة، ويريد بالضمير في "كانوا" رؤساءهم وكبارهم; لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك، قاله ، فيتبين الأتباع أن الرؤوس لو [ ص: 172 ] كانوا عالمين الغيب ما لبثوا. و"أن" - على التأويل الأول - بدل من "الجن"، وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة، وقرأ قتادة "تبينت الجن" على الفعل للمجهول، أي: تبينها الناس، و"أن" - على هذه القراءة - بدل، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، أي: بأن، على هذه القراءة، وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى. يعقوب:
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
مذهب أن "أن" في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب، وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين; لأن هذه الأفعال التي هي: تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك: علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو ، فكأنك قلت: والله لو قام زيد ما قام عمرو ، فقوله: سيبويه "ما لبثوا" - على هذا القول - جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب "لو"، وعلى الأقوال الأول جواب "لو"، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ بنصب [الجن] أي: تبينت الإنس الجن، و العذاب المهين هو العمل في تلك السخرة، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها أمر موت سليمان عليه السلام، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت، فالمهين: المذل، من الهوان. قال : وفي بعض القراءات ["فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا"]، وحكاها الطبري أبو الفتح عن ، ابن عباس ، والضحاك ، وذكر وعلي بن الحسين أنها كذلك في مصحف أبو حاتم ، وأكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له، ولا تقتضيه ألفاظ القرآن، وفي معانيه بعد، فاختصرته لذلك. ابن مسعود