الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم

"تلقى" تفعل، مضاعف، ومعناه: تعطى، كما قال سبحانه: وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ، قال الحسن : المعنى: أنك لتقبل القرآن.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ولا شك أنه يفيض عليه فضل الله تعالى فيقلبه صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية رد على كفار قريش في قولهم: إن القرآن من تلقاء محمد بن عبد الله . و "من لدن" معناه: من عنده ومن جهته، و "الحكيم": ذو الحكمة في معرفته حيث يجعل رسالاته، وفي غير ذلك، لا إله إلا هو.

ثم قص تعالى خبر موسى ، والتقدير: اذكر إذ قال موسى ، وكان من أمر موسى عليه [ ص: 517 ] السلام أنه حين خرج بزوجته بنت شعيب عليهما السلام يريد مصر -وقد قرب وقت نبوته- مشوا في ليلة ظلماء ذات برد ومطر، ففقدوا النار ومسهم البرد واشتدت عليهم الظلمة وضلوا الطريق، وأصلد زناد موسى عليه السلام ، فبينا هو في هذه الحال إذ رأى نارا على بعد. و "آنست" معناه: رأيت، ومنه قول حسان بن ثابت :


انظر خليلي بباب جلق هل تؤنس دون البلقاء من أحد؟



فلما رأى موسى ذلك قال لأهله ما في الآية، ومشى نحوها، فلما دنا منها بعدت هي منه، وكان ذلك نورا من نور الله عز وجل، ولم يكن نارا في نفسه، لكن ظنه موسى نارا، فناداه الله تبارك وتعالى عند ذلك، وسمع موسى عليه السلام النداء من جهة الشجرة، وأسمعه الله تعالى كلامه. و "الخبر" الذي رجاه موسى عليه السلام هو الإعلام بالطريق. وقوله: بشهاب قبس ، شبه النار التي توجد في طرف عود أو غيره بالشهاب، ثم خصصه بأنه مما اقتبس; إذ الشهب قد تكون من غير اقتباس، والقبس اسم لقطعة النار تقتبس في عود أو غيره، كما أن القبض اسم ما يقبض، ومنه قول أبي زيد :


في كفة صعدة مثقفة     فيها سنان كشعلة القبس



[ ص: 518 ] وقول الآخر:


من شاء من نار الجحيم استقبسا



وأصل الشهاب الكوكب المنقض في أثر مسترق السمع، وكل ما يقال له شهاب من النيرات فعلى التشبيه، قال الزجاج : كل أبيض ذي نور فهو شهاب، وكلامه معترض، والقبس يحتمل أن يكون اسما غير صفة أضاف إليه، بمعنى: بشهاب اقتبسه أو اقتبسته، وعلى كونه صفة يكون ذلك كإضافة الدار إلى الآخرة، والصلاة إلى الأولى، وغير ذلك. وقرأ الجمهور بإضافة "شهاب" إلى "قبس"، وهي قراءة الحسن وأهل المدينة ومكة والشام ، وقرأ عاصم، وحمزة ، والكسائي : "بشهاب قبس" بتنوين "شهاب"، وهذا على الصفة، ويجوز أن تكون مصدر: قبس يقبس، كما الحلب مصدر حلب يحلب، وقال أبو الحسن : الإضافة أجود وأكثر في القراءة، كما تقول: دار آجر وسوار ذهب، حكاه أبو علي . و "تصطلون" معناه: تستدفئون من البرد.

والضمير في "جاءها" للنار التي رآها موسى عليه السلام ، وقوله تبارك وتعالى: أن بورك يحتمل أن تكون "أن" مفسرة، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على تقدير: "بأن بورك"، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على تقدير: "نودي أنه"، قاله الزجاج . وقوله: "بورك" معناه:، قدس وضوعف خيره ونمي، والبركة مختصة بالخير، ومن هذا قول أبي طالب بن عبد المطلب :


بورك الميت الغريب كما بو     رك نبع الرمان والزيتون



و "بارك" متعد بغير حرف، تقول العرب : باركك الله.

[ ص: 519 ] وقوله تعالى: من في النار اضطرب المتأولون فيه، فقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وغيرهم: أراد عز وجل نفسه، وعبر بعضهم في هذا القول عبارات مردودة شنيعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أراد النور. وقال الحسن ، وابن عباس : أراد بـ "من حولها" الملائكة وموسى .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

فأما قول الحسن وغيره فإنما يتخرج على حذف مضاف، بمعنى: بورك من قدرته وسلطانه في النار، والمعنى: في النار على ظنك وما حسبت، وأما القول بأن " من في النار " النور، فهذا على أن يعبر عن النور من حيث كان أنه من نور الله تعالى، ويحتمل أن يكون من الملائكة; لأن ذلك النور الذي حسبه موسى نارا لم يخل من الملائكة. و " من حولها " يكون موسى والملائكة المطيفين بها. وقرأ أبي بن كعب "بوركت النار". و " من حولها " يكون موسى والملائكة، كذا حكى أبو حاتم ، وحكى ابن مكي أنه قرأ: "تباركت النار ومن حولها"، وحكى الداني أبو عمرو أنه قرأ: "ومن حولها من الملائكة"، قال: وكذلك قرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد .

وقوله تعالى: وسبحان الله رب العالمين يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى [ ص: 520 ] عليه السلام ، ويحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم اعتراضا بين الكلامين، والمقصد به -على كلا الوجهين- تنزيه الله عز وجل مما عسى أن يخطر ببال في معنى النداء في الشجرة، وكون قدرته وسلطانه في النار. وعود "من" عليه، أي: هو منزه -في جميع هذه الحالات- عن التشبيه والتكييف، قال الثعلبي : وإنما الأمر -كما روي في التوراة-: (جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلى من فاران )، المعنى: ظهرت أوامره بأنبيائه في هذه الحالات. والضمير في "إنه" للأمر والشأن، قال الطبري : ويسميها أهل الكوفة المجهولة، آنسه الله تعالى بصفاته من العزة التي لا خوف معها، والحكمة، أي: لا نقص في أفعاله.

التالي السابق


الخدمات العلمية