الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فروع تتعلق بهذه المسألة

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الأول : اعلم أنه ينبغي للرجال رفع أصواتهم بالتلبية ، لما رواه مالك في " الموطأ " ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم . من حديث خلاد بن السائب الأنصاري ، عن أبيه السائب بن خلاد بن سويد - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " ، ا هـ .

                                                                                                                                                                                                                                      ولفظ مالك في موطئه : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ، أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال " يريد أحدهما . وقال الترمذي في هذا الحديث : حديث حسن صحيح ، وجمهور أهل العلم على أن هذا الأمر المذكور في الحديث للاستحباب ، وذهب الظاهرية إلى أنه للوجوب ، والقاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية ، وهي أن [ ص: 10 ] الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وأما النساء فلا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية كما عليه جماهير أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك في موطئه : إنه سمع أهل العلم يقولون : ليس على النساء رفع الصوت بالتلبية ، لتسمع المرأة نفسها ، وعلل بعض أهل العلم خفض المرأة صوتها بالتلبية ، بخوف الافتتان بصوتها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الرافعي في شرحه الكبير المسمى : " فتح العزيز في شرح الوجيز " : وإنما يستحب الرفع في حق الرجل ، ولا يرفع حيث يجهد ويقطع صوته ، والنساء تقتصرن على إسماع أنفسهن ، ولا يجهرن كما لا يجهرن بالقراءة في الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاضي الروياني : ولو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم ; لأن صوتها ليس بعورة خلافا لبعض أصحابنا ، ا هـ . وذكر نحوه النووي عن الروياني ثم قال : وكذا قال غيره : لا يحرم لكن يكره ، صرح به الدارمي ، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي ، ويخفض الخنثى صوته كالمرأة ذكره صاحب البيان وهو ظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما المرأة الشابة الرخيمة الصوت ، فلا شك أن صوتها من مفاتن النساء ولا يجوز لها رفعه بحال ، ومن المعلوم أن الصوت الرخيم من محاسن النساء ومفاتنها ، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء ، كقول غيلان ذي الرمة :

                                                                                                                                                                                                                                      لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر     وعينان قال الله كونا فكانتا
                                                                                                                                                                                                                                      فعولان بالألباب ما تفعل الخمر



                                                                                                                                                                                                                                      فتراه جعل الصوت الرخيم من محاسن النساء ، كالبشرة الناعمة ، والعينين الحسنتين ، وكقول قعنب ابن أم صاحب :

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الخدود لو أن الدار جامعة     بيض أوانس في أصواتها غنن



                                                                                                                                                                                                                                      فتراه جعل الصوت الأغن من جملة المحاسن ، وهذا أمر معروف لا يمكن الخلاف فيه ، وقد قال جل وعلا مخاطبا لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن خير أسوة لنساء المسلمين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا لأن تليين الصوت وترخيمه يدل على الاهتمام بالريبة كإبداء غيره من محاسن المرأة للرجال كما قال الشاعر :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 11 ]

                                                                                                                                                                                                                                      يحسبن من الكلام زوانيا     ويصدهن عن الخنا الإسلام



                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثاني : اعلم أنه يستحب الإكثار من التلبية في دوام الإحرام ، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط ، وحدوث أمر من ركوب ، أو نزول ، أو اجتماع رفاق ، أو فراغ من صلاة وعند إقبال الليل والنهار ، ووقت السحر ، وغير ذلك من تغاير الأحوال ، وعلى هذا أكثر أهل العلم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال صاحب المهذب : يستحب أن يكثر من التلبية ، ويلبي عند اجتماع الرفاق ، وفي كل صعود وهبوط ، وفي أدبار الصلوات ، وإقبال الليل والنهار ، لما روى جابر - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا رأى ركبا أو صعد أكمة أو هبط واديا ، وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل . انتهى محل الغرض منه . ولم يتكلم النووي في شرحه للمهذب على حديث جابر المذكور ، وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " في حديث جابر المذكور : هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب ، وبيض له النووي ، والمنذري ، وقد رواه ابن عسكر في تخريجه لأحاديث المهذب من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية في فوائده بإسناد له إلى جابر قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا لقي ركبا " فذكره ، وفي إسناده من لا يعرف ، وروى الشافعي ، عن سعيد بن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر أنه كان يلبي راكبا ، ونازلا ، ومضطجعا . وروى ابن أبي شيبة من رواية ابن سابط قال : كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع : في دبر الصلاة ، وإذا هبطوا واديا أو علوه ، وعند التقاء الرفاق ، وعند خيثمة نحوه وزاد : وإذا استقلت بالرجل راحلته . انتهى من التلخيص .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك في " الموطأ " : سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة ، وعلى كل شرف من الأرض . ويستأنس لحديث جابر المذكور بقول البخاري ، باب التلبية : إذا انحدر في الوادي ، ثم ساق بسنده الحديث عن ابن عباس وفيه قال : " أما موسى كأني أنظر إليه ، إذا انحدر في الوادي يلبي " وقال في " الفتح " في شرح هذا الحديث ، وفي الحديث : أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين ، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا في استحباب التلبية في حال طواف القدوم والسعي بعده ، وممن قال إنه لا يلبي في طواف القدوم ، والسعي بعده : مالك وأصحابه ، وهو الجديد الصحيح من قولي الشافعي ، وقال ابن عيينة : ما رأيت أحدا يقتدى به يلبي [ ص: 12 ] حول البيت إلا عطاء بن السائب ، وممن أجاز التلبية في طواف القدوم : أحمد ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وبه يقول ابن عباس ، وعطاء بن السائب ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وابن أبي ليلى ، والشافعي . وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال : لا يلبي حول البيت ، وقال ابن عيينة : ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت ، إلا عطاء بن السائب ، وذكر أبو الخطاب : أنه لا يلبي ، وهو قول للشافعي ; لأنه مشتغل بذكر يخصه ، فكان أولى . انتهى محل الغرض من " المغني " ، وقد قدمنا لك أن القول الجديد الأصح في مذهب الشافعي : أنه لا يلبي خلافا لما يوهمه كلام صاحب المغني ، وروى مالك في موطئه عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم . حتى يطوف بالبيت . وبين الصفا والمروة . ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة . فإذا غدا ترك التلبية . وكان يترك التلبية في العمرة ، إذا دخل الحرم . انتهى من " الموطأ " ، وروى مالك في " الموطأ " أيضا عن ابن شهاب ، أنه كان يقول : كان عبد الله بن عمر لا يلبي ، وهو يطوف بالبيت انتهى منه ، وقد روي عن ابن عمر أيضا خلاف هذا ، فقد ذكر ابن حجر في " التلخيص " : أن ابن أبي شيبة أخرج من طريق ابن سيرين عن ابن عمر أنه كان إذا طاف بالبيت لبى .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم في أن المحرم يلبي في المسجد الحرام ، ومسجد الخيف بمنى ، ومسجد نمرة بقرب عرفات ; لأنها مواضع نسك . واختلفوا في التلبية فيما سوى ذلك من المساجد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأظهر القولين عندي : أنه يلبي في كل مسجد ، إلا أنه لا يرفع صوته رفعا يشوش على المصلين ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الخامس : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن المحرم يلبي في كل مكان في الأمصار وفي البراري ، ونقل النووي عن العبدري أنه قال به أكثر الفقهاء . خلافا لمن قال : التلبية مسنونة في الصحاري ، ولا يعجبني أن يلبي في المصر ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية