الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 90 ] [ بم تعرف الصحبة ؟ ] ( و ) الثانية : معرفة الصحبة . ( تعرف الصحبة ) إما ( باشتهار ) قاصر عن التواتر ، وهو الاستفاضة على رأي بها ; كعكاشة بن محصن ، وضمام بن ثعلبة وغيرهما ، ( او تواتر ) بها ; كأبي بكر الصديق المعني بقوله تعالى : ( إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) [ التوبة : 40 ] ، وسائر العشرة في خلق ، ( أو قول صاحب ) آخر معلوم الصحبة ; إما بالتصريح بها ، كأن يجيء عنه أن فلانا له صحبة مثلا أو نحوه ; كقوله : كنت أنا وفلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو دخلنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بشرط أن يعرف إسلام المذكور في تلك الحالة . وكذا تعرف بقول آحاد ثقات التابعين على الراجح كما سيأتي . وإلى ما عدا الأخير أشار أبو عبد الله الصيمري من الحنفية مع تمريض ثالثها ، فقال : لا يجوز عندنا الإخبار عن أحد بأنه صحابي إلا بعد وقوع العلم به ; إما اضطرارا ، يعني الناشئ عن التواتر ، أو اكتسابا ، يعني النظري الناشئ عن الشهرة ونحوها . قال : وقيل : يجوز أن يخبر بذلك إذا أخبر به الصحابي ، يعني كما هو الصحيح .

( ولو قد ادعاها ) ; أي : الصحبة بنفسه ، ( وهو ) قبل دعواه إياها ( عدل قبلا ) قوله ; يعني : على المعتمد ، سواء التصريح : كأنا صحابي ، أو ما يقوم مقامه : كسمعت ونحوها ; لأن وازع العدل يمنعه من الكذب . هكذا أطلقه ابن الصلاح ومن تبعه ; كالنووي ، وهو متابع للخطيب في ( الكفاية ) ; فإنه قال : وقد يحكم في الظاهر بأنه صحابي بقوله : صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكثر لقائي له ، إذا كان ثقة أمينا مقبول القول لموضع عدالته وقبول خبره ، كما يعمل بروايته ، وإن لم يقطع بذلك ; يعني في الصورتين . واشتراط العدالة قبل لا بد منه ; لأن قوله قبل أن تثبت عدالته : أنا [ ص: 91 ] صحابي ، أو ما يقوم مقام ذلك ، يلزم من قوله إثبات عدالته ; لأن الصحابة كلهم عدول ، فيصير بمنزلة قول القائل : أنا عدل ، وذلك لا يقبل . ولكن في كلام القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني تقييد ذلك أيضا بما إذا لم يرد عن الصحابة رد قوله . وفيه نظر ; إذ المثبت مقدم على النافي ، ولو فرض كون النفي لمحصور فربما كان قادحا في العدالة . وكذا قيده هو والآمدي بثبوت معاصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - . وعبارة الآمدي : فلو قال من عاصره : أنا صحابي ، مع إسلامه وعدالته فالظاهر صدقه . ونحوه قول أبي بكر الصيرفي : إذا عرفت عدالته قبل منه أنه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه مع إمكان ذلك منه ; لأن الذي يدعيه دعوى لا أمارة معها . ولذا قال المصنف : ولا بد من تقييد ما أطلق من ذلك بأن يكون ادعاؤه لذلك يقتضيه الظاهر ، أما لو ادعاه بعد مضي مائة سنة من حين وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; فإنه لا يقبل ، وإن كانت قد ثبتت عدالته قبل ذلك ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : ( أرأيتكم ليلتكم هذه ; فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى أحد ممن على ظهر الأرض ) ، يريد انخرام ذلك القرن . قال ذلك - صلى الله عليه وسلم - في سنة وفاته ، قال : وهو واضح جلي .

ونحوه قول شيخنا : وأما الشرط الثاني ، وهو المعاصرة ، فيعتبر بمضي مائة سنة وعشر سنين من هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر عمره لأصحابه : ( أرأيتكم ليلتكم هذه ; فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد ) رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر . زاد مسلم من حديث جابر أن ذلك كان قبل موته - صلى الله عليه وسلم - بشهر ، ولفظه : ( سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت بشهر : ( أقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة اليوم تأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ ) . قال : ولهذه النكتة لم يصدق الأئمة أحدا ادعى الصحبة بعد [ ص: 92 ] الغاية المذكورة . وقد ادعاها جماعة فكذبوا ، وكان آخرهم رتن الهندي ; لأن الظاهر كذبهم في دعواهم . انتهى .

ولا شك أن دعوى ما لا يمكن تقدح في العدالة ، فاشتراطها يغني عن ذلك ، وإن جعل بعض المتأخرين محله مع العدالة إذا تلقي بالقبول وحفته قرائن ، ولم يقم دليل على رده .

وفي المسألة قولان آخران :

أحدهما : أنها لا تثبت صحبته بقوله ; لما في ذلك من دعواه رتبة يثبتها لنفسه . وهو ظاهر كلام أبى الحسن بن القطان ; فإنه قال : ومن يدعي صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل منه حتى نعلم صحبته ، فإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره . واقتصار ابن السمعاني حيث قال : تعلم الصحبة إما بطريق قطعي ، وهو الخبر المتواتر ، أو ظني ، وهو خبر الثقة ، قد يشعر به .

وقواه بعض المتأخرين قال : فإن الشخص لو قال : أنا عدل ، لم يقبل ; لدعواه لنفسه مرتبة ، فكيف إذا ادعى الصحبة التي هي فوق العدالة ؟ ! وأبداه ابن الحاجب احتمالا ; حيث قال : لو قال المعاصر العدل : أنا صحابي ، احتمل الخلاف ، يعني قبولا ومنعا ، فكأنه لم يقف على النقل في الطرفين .

ثانيهما : التفصيل بين مدعي الصحبة اليسيرة فيقبل ; لأنها مما يتعذر إثباتها بالنقل ; إذ ربما لا يحضره حالة اجتماعه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أو رؤيته له أحد . أو الطويلة وكثرة التردد في السفر والحضر ، فلا ; لأن مثل ذلك يشاهد وينقل ويشتهر فلا يثبت بقوله .

[ ص: 93 ] على أن ابن عبد البر قد جزم بالقبول من غير شرط ، بناء على أن الظاهر سلامته من الجرح . وقوي ذلك بتصرف أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم . قال شيخنا : ولا ريب في انحطاط رتبة من هذا سبيله عمن مضى . قال : ومن صور هذا الضرب أن يقول التابعي : أخبرني فلان مثلا أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ، سواء سماه أم لا ; كقول الزهري فيما رواه البخاري في فتح مكة من صحيحه : أخبرني سنين أبو جميلة ، وزعم أنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج معه عام الفتح . أما إذا قال : أخبرني رجل مثلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا ، يعني بالعنعنة ، فثبوت الصحبة بذلك بعيد ; لاحتمال الإرسال . ويحتمل التفرقة بين أن يكون القائل من كبار التابعين ، فيترجح القبول ، أو صغارهم فيترجح الرد . ومع ذلك فلم يتوقف من صنف في الصحابة عن إخراج من هذا سبيله في كتبهم .

نعم ، لو أخبر عنه عدل من التابعين أو تابعيهم أنه صحابي ، قال بعض شراح ( اللمع ) : لا أعرف فيه نقلا ، قال : والذي يقتضيه القياس فيه أنه لا يقبل ذلك ، كما لا يقبل مراسيله ; لأن تلك قضية لم يحضرها . قال شيخنا : والراجح قبوله ; بناء على الراجح من قبول التزكية من واحد . وكذا مال إليه الزركشي فقال : والظاهر قبوله ; لأنه لا يقول ذلك إلا بعد العلم به ; إما اضطرارا أو اكتسابا . وإليه يشير كلام ابن السمعاني السابق .

إذا علم هذا فقد أفاد شيخنا في مقدمة الإصابة له ضابطا يستفاد من معرفته جمع كثير يكتفى فيهم بوصف يتضمن أنهم صحابة ، وهو مأخوذ من ثلاثة آثار : أحدها : أنهم كانوا لا يؤمرون في المغازي إلا الصحابة ، فمن تتبع الأخبار الواردة في الردة والفتوح وجد من ذلك الكثير .

ثانيها : أن عبد الرحمن بن عوف قال : ( كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا له ) . وهذا أيضا يوجد منه الكثير .

ثالثها : أنه لم يبق بالمدينة ولا بمكة ولا الطائف ولا من بينها من الأعراب [ ص: 94 ] إلا من أسلم وشهد حجة الوداع . فمن كان في ذلك الوقت موجودا اندرج فيهم ; لحصول رؤيتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يرهم هو ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية