الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 83 ] وهل يدخل من رآه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة الشريفة ; كزيد بن عمرو بن نفيل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إنه يبعث أمة وحده ) ؟ الظاهر : لا . وبه جزم شيخنا في ( مقدمة الإصابة ) ، وزاد في التعريف الماضي : به ; ليخرجه ; فإنه ممن لقيه مؤمنا بغيره . على أن لقائل ادعاء الاستغناء عن التقييد به بإطلاق وصف النبوة ; إذ المطلق يحمل على الكامل . هذا مع أن شيخنا قد ترجم له في إصابته تبعا للبغوي وابن منده وغيرهما ، وترجم ابن الأثير للقاسم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل وللطاهر وعبد الله أخويه في القسم الثاني من الإصابة .

ومقتضاه أن تكون لهم رؤية ، لكنه ذكر أخاهم الطيب في الثالث منها . وفيه نظر ، خصوصا وقد جزم هشام بن الكلبي بأن عبد الله والطاهر والطيب واحد ، اسمه عبد الله ، والطاهر والطيب لقبان .

ثم هل يشترط في كونه مؤمنا به أن تقع رؤيته له بعد البعثة فيؤمن به حين يراه ، أو بعد ذلك ؟ أو يكفي كونه مؤمنا به أنه سيبعث كما في بحيرا الراهب وغيره ممن مات قبل أن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام ؟ .

قال شيخنا : إنه محل احتمال . وذكر بحيرا في القسم الرابع من الإصابة ; لكونه كان قبل البعثة ، وأما ورقة فذكره في القسم الأول ; لكونه كان بعدها قبل الدعوة ، مع أنه أيضا لم يجزم بصحبته ، بل قال : وفي إثباتها له نظر . على أن شرح النخبة ظاهره اختصاص التوقف بمن لم يدرك البعثة ; فإنه قال : وقوله : ( به ) ، هل يخرج من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة ؟ فيه نظر . وخرج بقوله : مسلما ، من رآه بعدها لكن حال كونه كافرا ، سواء أسلم بعد ذلك في حياته أم بعدها إذا لم يره بعد ، وعدوا من جملة المخضرمين ، ومراسيلهم يطرقها احتمال أن تكون مسموعة لهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رؤيتهم له . على أن أحمد خرج في مسنده حديث رسول قيصر ، مع كونه إنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال كفره .

وكذا ترجم ابن فتحون في ذيله لعبد الله بن صياد إن لم يكن هو الدجال ، وقال : إن الطبري وغيره ترجم له هكذا ، وهو إنما أسلم بعده - صلى الله عليه وسلم - . نعم ، قال شيخنا : ينبغي أن يعد من كان مؤمنا به زمن الإسراء ، إن ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كشف له في ليلته عن جميع من [ ص: 84 ] في الأرض فرآه ، في الصحابة ، وإن لم يلقه ; لحصول الرؤية من جانبه - صلى الله عليه وسلم - .

ويرد على التعريف من رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام ; فإنه ليس بصحابي اتفاقا ; كعبد الله بن جحش ومقيس بن صبابة وابن خطل ، وحينئذ فيزاد فيه : ومات على ذلك . على أن بعضهم انتزع من قول الأشعري أن من مات مرتدا ، تبين أنه لم يزل كافرا ; لأن الاعتبار بالخاتمة ، صحة إخراجه ; فإنه يصح أن يقال : لم يره مؤمنا . لكن في هذا الانتزاع نظر ، وإن تضمن مخالفة شيخنا المحلي المؤلف في التقييد بموته مؤمنا موافقة الانتزاع ; لأنه حين رؤياه كان مؤمنا في الظاهر ، وعليه مدار الحكم الشرعي فيسمى صحابيا ، وحينئذ فلا بد من القيد المذكور . وما وقع لأحمد في مسنده من ذكره حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي ، وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع ، وحدث عنه بعد موته ، ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب شيء أغضبه ، يمكن توجيهه بعدم الوقوف على قصة ارتداده . وقد قال شيخنا ما نصه : وإخراج حديث مثل هذا - يعني مطلقا - في المسانيد وغيرها مشكل ، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده ، فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عوده . فالصحيح أنه معدود في الصحابة ; لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه ; كقرة بن هبيرة ، ممن وقع له ذلك فيهم ، وإخراج أحاديثهم في المسانيد وغيرها ، وزوج أبو بكر الصديق أخته للأشعث . وقيل : لا ; إذ الظاهر أن ذلك يقطع الصحبة وفضلها ، فالردة تحبط العمل عند عامة العلماء ; كأبي حنيفة . بل نص عليه الشافعي في ( الأم ) ، وإن حكى الرافعي عنه تقييده باتصالها بالموت . وقيد بعضهم كونه حين الرؤية بالغا [ ص: 85 ] عاقلا ، حكاه الواقدي عن أهل العلم فقال : رأيت أهل العلم يقولون : كل من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أدرك الحلم فأسلم وعقل أمر الدين ورضيه فهو عندنا ممن صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار .

والتقييد بالبلوغ - كما قال المؤلف - شاذ ، وهو يخرج نحو محمود بن الربيع الذي عقل من النبي - صلى الله عليه وسلم - مجة ، وهو ابن خمس سنين ، مع عدهم إياه في الصحابة . ولم يتعقب تقييده بالعقل ، وهو كذلك في المجنون المطبق ، سواء البالغ السابق إسلامه دون رؤيته ، أو الصغير المحكوم بإسلامه تبعا لأبويه ; ولذا زدته ، وكان عدم التصريح به لفقده . نعم ، المتقطع لا مانع من اتصافه بها إذا رآه في حال إفاقته ; لإجراء الأحكام عليه حينئذ ، ووصفه بالعدالة إذا لم يؤثر الخلل في إفاقته ، وبعضهم كونه مميزا كما تقدم .

( وقيل ) : إنه لا يكفي في كونه صحابيا مجرد الرؤية ، بل لا يكون صحابيا إلا ( إن طالت ) صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكثرت مجالسته معه على طريق التبع له والأخذ عنه . وبه جزم ابن الصباغ في ( العدة ) فقال : الصحابي هو الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأقام معه واتبعه دون من وفد عليه خاصة ، وانصرف من غير مصاحبة ولا متابعة . وقال أبو الحسين في ( المعتمد ) : هو من طالت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ عنه ، أما من طالت بدون قصد الاتباع أو لم تطل كالوافدين فلا . وقال الكيا الطبري : هو من ظهرت صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، صحبة القرين قرينه حتى يعد من أحزابه وخدمه المتصلين به .

قال صاحب ( الواضح ) : وهذا قول شيوخ المعتزلة . وقال ابن فورك : هو من أكثر مجالسته واختص به ; ولذلك لم يعد الوافدون من الصحابة ، في آخرين من الأصوليين ، بل حكاه أبو المظفر السمعاني عنهم ، وادعى أن اسم الصحابي يقع على ذلك من حيث اللغة . والظاهر أن المحدثين توسعوا في إطلاق اسم الصحبة على من رآه رؤية ; لشرف منزلته - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أعطوا لكل من رآه حكم الصحبة ; ولهذا يوصف من أطال مجالسة أهل العلم بأنه من أصحابه ، أي : المجالس .

وما [ ص: 86 ] حكاه عن الأصوليين إنما هو طريقة لبعضهم ، وجمهورهم على الأول . وكذا دعواه ذلك لغة يرده حكاية القاضي أبي بكر الباقلاني عنهم بدون اختلاف ، لكنه قال : ومع هذا - يعني إيجاب حكم اللغة - إجراء الصحبة على من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة ، فقد تقرر للأئمة عرف في أنهم لا يستعملونه إلا فيمن كثرت صحبته واتصل لقاؤه ، ولا يجرون ذلك على من لقي المرء ساعة ، ومشى معه خطا ، وسمع منه حديثا ، فوجب لذلك أن لا يجري في عرف الاستعمال إلا على من هذا حاله . انتهى .

وصنيع أبي زرعة الرازي وأبي داود يشعر بالمشي على هذا المذهب ; فإنهما قالا في طارق بن شهاب : له رؤية وليست له صحبة . وكذا قال عاصم الأحول في عبد الله بن سرجس . بل قال موسى السيلاني فيما رواه ابن سعد في ( الطبقات ) بسند جيد : قلت لأنس : أأنت آخر من بقي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال بناء على ما في ظنه : ( قد بقي قوم من الأعراب ، فأما أصحابه فأنا آخرهم ) .

لكن قد يجاب بأنه أراد إثبات صحبة خاصة ليست لتلك الأعراب ، وهو المطابق للمسألة . وكذا إنما نفى أبو زرعة ومن أشير إليهم صحبة خاصة دون العامة ، وما تمسكوا به لهذا المذهب من خطابه - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد في حق عبد الرحمن بن عوف أو غيره بقوله : ( لا تسبوا أصحابي ) ، مردود بأن نهي الصحابي عن سب آخر لا يستلزم أن لا يكون المنهي عن السب غير صحابي ، فالمعنى : لا يسب غير أصحابي أصحابي ، ولا يسب بعضهم بعضا .

( و ) على كل حال ، فهذا القول ( لم يثبت ) [ ص: 87 ] بضم الياء المثناة من تحت ، وتشديد الباء الموحدة المفتوحة ; أي : ليس هو الثبت ; إذ العمل عند المحدثين والأصوليين على الأول . ثم إن القائلين بالثاني لم يضبط أحد منهم الطول بقدر معين ; كما صرح به الغزالي وغيره ، لكن حكى شارح البزدوي عن بعضهم تحديده بستة أشهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية