الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5768 6119 - حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن مولى أنس - قال أبو عبد الله: اسمه عبد الله بن أبي عتبة - سمعت أبا سعيد يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها. [انظر: 3562 - مسلم: 232 - فتح: 10 \ 521].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه ثلاثة أحاديث:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث أبي السوار العدوي واسمه حسان بن حريث قال: سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "الحياء لا يأتي إلا بخير". فقال بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارا، وإن من الحياء سكينة. فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتحدثني عن صحيفتك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 493 ] ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو يعاتب في الحياء يقول: إنك لتستحيي. حتى كأنه يقول: قد أضر بك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "دعه، فإن الحياء من الإيمان".

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              حديث قتادة، عن مولى أنس سمعت أبا سعيد يقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد حياء من العذراء في خدرها.

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              (حديث ابن عمر سلف في الإيمان، وحديث أبى سعيد سلف قريبا) .

                                                                                                                                                                                                                              وأبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان الخدري.

                                                                                                                                                                                                                              ومولى أنس هذا هو عبد الله بن أبي عتبة. وقال الفربري عن البخاري: اسمه عبد الرحمن بن أبي عتبة. وفي نسخة النسفي عن الفربري: عبد الله كما قدمناه ، وهو الصواب، كما قاله الجياني . وكذا ذكره البخاري في كتاب الأدب، وكذا الكلاباذي ، واقتصر عليه الدمياطي فيما كتبه بخطه. ونقل بشير هو معنى الحديث، وإنما أراد عمران أن إسناده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى; لأن بشيرا حدثه عن صحيفته، وعمران عن الشارع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 494 ] وهذا أصل أن الحجة إنما هي في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا فيما يروى عن كتب الحكمة; لأنه لا يدرى ما حقيقتها، وهو بمعنى الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية عن بشير أنه قال: إن من الحياء ضعفا، وعلى هذا يكون غضب عمران أوكد; لمخالفته لقوله: "الحياء لا يأتي إلا بخير"; ولقوله للذي كان يقول لصاحبه: إنك لتستحي حتى أضر بك الحياء: "دعه; فإن الحياء من الإيمان". فدلت هذه الآثار أن الحياء ليس بضار في حالة من الأحوال، ولا بمذموم.

                                                                                                                                                                                                                              والحياء ممدود.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ("إن الحياء من الإيمان") أي: من كماله، قاله أبو عبد الملك، وقال الهروي: جعل الحياء - وهو غريزة - من الإيمان وهو الاكتساب; لأن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن له نية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبينها.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (إنك لتستحي). قال ابن التين: هذا من استحيا بياء واحدة. قال الجوهري: أصله استحييت (فأعلوا) الياء الأولى، وألقوا حركتها على الحاء فقالوا: استحيت (استثقالا لما دخلت) عليها الزوائد. وقال سيبويه: حذفت لالتقاء الساكنين; لأن الياء في الأولى تقلب ألفا; لتحركها قال: وإنما فعلوا ذلك; حيث كثر في كلامهم . وقال المازني: لم تحذف لالتقاء الساكنين; لأنها لو حذفت لذلك لردوها إذا قالوا: هو يستحي لقالوا: هو يستحيي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 495 ] وقال الأخفش: استحى بياء واحدة لغة تميم، وبياءين لغة أهل الحجاز. وهو الأصل; لأن ما كان موضع لامه معتلا لم يعلوا عينه، وإنما حذفوا الياء; لكثرة استعمالهم لها.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى: ("الحياء لا يأتي إلا بخير") أن من استحى من الناس أن يروه يأتي الفجور ويرتكب المحارم، فذلك داعية له إلى أن يكون أشد حياء من ربه وخالقه - عز وجل - ، ومن استحى ربه فإن حياءه زاجر له عن تضييع فرائضه وركوب معاصيه; لأن كل ذي فطرة يعلم أن الله النافع له والضار والرزاق والمحيي والمميت، وإذا علم ذلك فينبغي له أن يستحي منه تعالى وهو قوله - عليه السلام - : "دعه; فإن الحياء من الإيمان" أي: من أسبابه وأخلاق أهله، وذلك أنه لما كان الحياء يمنع من الفواحش، ويحمل على البر والخير، كما يمنع الإيمان صاحبه من الفجور، ويبعده عن المعاصي، ويحمله على الطاعات، صار كالإيمان; لمساواته له في ذلك، وإن كان الحياء غريزة، والإيمان فعل المؤمن كما سلف فأشبهها من هذه الجهة، وقد سلف هذا المعنى في كتاب الإيمان.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية