الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5679 6025 - حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن أعرابيا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تزرموه". ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه. [انظر: 221 - مسلم: 284 - فتح: 10 \ 449]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة - رضي الله عنها - : ففهمتها فقلت: السام عليكم واللعنة. قالت: فقال - صلى الله عليه وسلم - : "مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله". فقلت: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "قد قلت عليكم".

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أنس أن أعرابيا بال في المسجد، فقاموا إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "لا تزرموه". ثم دعا بدلو من ماء فصب عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا سلف، ومعنى: "لا تزرموه"، لا تقطعوا عليه بوله، يقال: زرم الدمع والبول بالكسر، إذا انقطع، وأزرمه عليه، قطعه عليه، وأزرمته أنا، وعبارة الأصمعي فيما نقله أبو عبيد الإزرام: القطع، يقال للرجل أزرم إذا قطع بوله: قد أزرمت بولك، وأزرمه: قطعه، وزرم البول نفسه: انقطع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 336 ] قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                              أو كماء المثمود بعد جمام زرم الدمع لا (يزور) نزورا

                                                                                                                                                                                                                              المثمود: الذي قد ثمده الناس أي: ذهبوا به فلم يبق منه إلا قليل، والجمام: الكبير . وعبارة صاحب "العين": زرم البول والدمع: انقطع، وزرم سؤر الكلب زرما إذا بقي جعره في دبره فهو أزرم .

                                                                                                                                                                                                                              وإنما منعهم منه لأنه يضر حبسه، وقيل: لئلا ينجس موضعا آخر.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن الوارد له قوة وبه يرد على من رد علينا حيث قلنا: إن الماء اليسير إذا اتصلت به نجاسة ينجس وإن لم يتغير، ونص في "المدونة": أنه يتيمم والحالة هذه وهو قول الشافعي، وقال بعض أصحابهم: يعني أنه يتوضأ به ويتيمم لا أنه يتركه جملة.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي: فسروا السام في لسانهم: بالموت، كأنهم دعوا عليه بالموت. قال: وكان قتادة يرويه: السآم بالمد من السآمة والملل أي: تسأمون دينكم .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: كانوا يعنون أماتكم الله الساعة، وما ذكره أن السام الموت فسره الزهري حديث الحبة السوداء أنها شفاء من كل داء إلا السام - كما سلف في البخاري في الطب ، وهو كذلك في اللغة، كما نص عليه

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 337 ] الجوهري وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف هل يأتي بالواو في الرد أم لا؟

                                                                                                                                                                                                                              فقال ابن حبيب: لا يأتي بها; لأن فيها اشتراكا، وخالفه ابن الحلاب والقاضي أبو محمد، وقيل: يقول: عليكم السلام - بالكسر - وقال طاوس: يرد: وعلاك السلام، أي: ارتفع، وقال النخعي: إذا كان لك عنده حاجة تبدأ بالسلام ولا ترد عليه كاملا فضيلة وتكرمة، فلا يجب أن يكرم كالمسلم، وسمح بعضهم في رد السلام عليكم. واحتج بقوله: فاصفح عنهم وقل سلام [الزخرف: 89] ولو كان كما قال لكان سلاما بالنصب، وإنما يعني بذلك على اللفظ والحكاية وأيضا فإن الآية قيل: إنها منسوخة بآية القتال .

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              اختلف هل يكنى اليهودي؟ فكرهه مالك، ورخص فيه ابن عبد الحكم، واحتج بقوله - عليه السلام - : "انزل أبا وهب" .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              في هذين الحديثين أدب عظيم من آداب الإسلام وحض على الرفق بالجاهل والصفح والإعفاء عنه; لأنه عليه السلام ترك مقابلة اليهود بمثل قولهم، ونهى عائشة عن الإغلاظ في ردها وقال: "مهلا يا عائشة، إن الله يحب [ ص: 338 ] الرفق في الأمر كله" أي في جميعها، وإن كان الانتصار بمثل ما قوبل به المرء جائز لقوله: ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41] فالصبر أعظم أجرا وأعلى درجة لقوله: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى: 43] والصبر أخلاق النبيين والصالحين، فيجب امتثال طريقتهم والتأسي بهم وقرع النفس عن المغالبة رجاء ثواب الله على ذلك، وكذلك رفقه - عليه السلام - بالأعرابي الجاهل البائل في المسجد المعظم المضاعف فيه الثواب على ما سواه إلا المسجد الحرام، وأمر أن لا يهاج حتى يفرغ من بوله تأنيسا ورفقا به، فدل ذلك على استعمال الرفق بالجاهل، وأنه بخلاف العالم في ترك اللوم له والتثريب عليه.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية