الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا ) هو ابن حرام ضد حلال الأشجعي شهد بدرا ( وكان يهدي ) على صيغة المعلوم من الإهداء ، والمعنى أنه كان يأتي بالهدية إليه - صلى الله عليه وسلم - ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هدية من البادية ) أي : حاصله منها مما يوجد فيها من الأزهار ، والأثمار والنبات ، وغيرها ( فيجهزه ) بتشديد الهاء ، وفي نسخة صحيحة بتخفيفها أي : يعد ويهيئ له ( النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ما يحتاج إليه في البادية من أمتعة البلدان من المدينة ، وغيرها ( إذا أراد أن يخرج ) أي : زاهر إلى وطنه جزاء وفاقا ( فقال النبي - صلى الله [ ص: 36 ] عليه وسلم - إن زاهرا باديتنا ) أي : نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات ، فصار كأنه باديته ، وقيل من إطلاق اسم المحل على الحال أو على حذف المضاف أي : ساكن باديتنا كما حقق ( في وسائل القربة ) ، وقيل تاؤه للمبالغة ، ويؤيده ما في بعض النسخ بأيدينا ، والبادي : هو المقيم بالبادية ، ومنه قوله تعالى سواء العاكف فيه والباد ( ونحن ) أي : أهل بيت النبوة أو الجمع للتعظيم ، ويؤيد الأول ما في جامع الأصول من أنه كان زاهر بن حرام ( حاضروه ) أي : حاضروا المدينة له ، وفيه كمال الاعتناء به ، والاهتمام بشأنه ، والمعنى : ونحن نعد له ما يحتاج إليه في باديته من البلد ، وإنما ذكره مع ما فيه من إيهام ذكر المنعم بإنعامه لكونه مقتضى المقابلة الدالة على حسن المعاملة تعليما لأمته في متابعة هذه المجاملة ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه ) أي : حبا شديدا كما دل عليه ما قبله مع ما ورد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تهادوا تحابوا " ، والجملة تمهيد ، وتوطئة لقوله ( وكان رجلا ) أي : من رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله الآية ( دميما ) بالدال المهملة أي : قبيح الصورة مع كونه مليح السيرة .

ففيه تنبيه على أن المدار على حسن الباطن ، ولذا ورد .

" إن الله لا ينظر إلى صوركم ، وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، وأعمالكم " ، ( فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما ) فنعم الطالب الذي جاء مطلوبه ( وهو يبيع متاعه ) جملة حالية ، والمعنى أنه مشتغل بمتاعه الظاهري وذاهل عن النعمة الغير المترقبة من مجيء مطلوبه المشتري ( واحتضنه ) عطف على أتاه ، وفي المشكاة بالفاء كما في بعض النسخ هنا أيضا ، وهو الأنسب أي : أدخله في حضنه ( من خلفه ) وحاصله أنه جاء من ورائه ، وأدخل يديه تحت إبطي زاهر فاعتنقه ، وأخذ عينيه بيديه كيلا يعرفه ، فقوله ( ولا يبصر ) أي : لا يبصره كما في نسخة ، حال من فاعل احتضنه ، وفي المشكاة ، وهو لا يبصره جمعا بين النسختين مع زيادة هو ، وهو الأظهر يقال احتضن الشيء جعله في حضنه ، والحضن : ما دون الإبط إلى الكشح ، وهو ما دون الخاصرة إلى الضلع ، وحضنا الشيء جانباه ( فقال : من هذا ) أي : المحتضن ( أرسلني ) بصيغة الأمر ، وفي نسخة : أرسلني من هذا ؟ وهو موافق لما في المشكاة ، والظاهر وقوعه مكررا ( فالتفت ) أي : ببعض بصره ، ورأى بطرفه طرف محبوبه ، وطرفا من طرف مطلوبه ( فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : عرفه بنعت الجمال على وجه الكمال ( فجعل ) أي : شرع ( لا يألوا ) أي : بهمزة ساكنة ، ويبدل وبضم اللام أي : لا يقصر ( ما ألصق ) أي : ألزق كما في رواية المشكاة ( ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ما مصدرية ، والمعنى فطفق لا يقصر في لزق ظهره بصدر مصدر الفيوض الصادرة في [ ص: 37 ] الكائنات الواردة على الموجودات ممن هو رحمة للعالمين تبركا ، وتلذذا به ، وتدللا على محبوبه ، والظاهر أنه كان حينئذ ممسوكا بيده - صلى الله عليه وسلم - وإلا كان مقتضى الأدب أن يقع على رجليه ، ويقبلهما بمقلتيه ، ويتبرك بغبار قدميه ، ويجعله كحل عينيه ( حين عرفه ) كأنه ذكره ثانيا اهتماما بشأنه ، وتنبيها على أن منشأ هذا الإلصاق ليس إلا لمعرفته ( فجعل ) وفي المشكاة كما في نسخة هنا : وجعل ( النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من يشتري العبد ) أي : هذا العبد كما في نسخة ، ووجه تسميته عبدا ، واضح ؛ فإنه عبد الله ووجه الاستفهام عن الشراء الذي يطلق لغة على مقابلة الشيء بالشيء ، وعلى الاستبدال أنه أراد من يقابل هذا العبد بالإكرام أو من يستبدله مني بأن يأتيني بمثله كذا ذكره ابن حجر ، ولكن جوابه الآتي لا يلائم الوجهين ، وكذا ما ذكره من أنه يصح أن يريد التعريض له بأنه ينبغي له أن يشتري نفسه من الله ببذلها في جميع مطالبه ، وما يرضيه .

فالوجه الوجيه أن الاشتراء على حقيقته ، وأن العبد فيه تورية أو تشبيه أو قبله مضاف مقدر أي : من يشتري مثل هذا العبد مني ، ولا يلزم من هذا القول لا سيما والمقام مقام المزاح إرادة تحقق بيعه ليشكل على الفقيه بأن بيع الحر غير جائز ( فقال : يا رسول الله إذا ) بالتنوين جواب ، وجزاء بشرط محذوف أي : إن بعتني ، قاله ابن حجر ، والأظهر إن عرضتني على البيع إذا ( والله تجدني بالرفع وينصب ( كاسدا ) أي : متاعا رخيصا أو غير مرغوب فيه ، وهو أبلغ ، وفي نسخة إذا تجدني والله كاسدا بتأخير كلمة القسم عن الفعل قال ميرك : وفي بعض النسخ تجدوني بلفظ الجمع ، ويحتاج على تكلف قلت ، وجهه أن الجمع لتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - أو الضمير له ، ولأصحابه المعروضين عليهم رضي الله عنهم ثم يحتمل أنه بتشديد النون ; فيكون مرفوعا أو بتخفيفه ; فيصير محتملا ، ووجه النصب ظاهر ، ووجه الرفع أن يراد به الحال لا الاستقبال قال ابن حجر : تبعا لشارح ، وفي رواية إذا هذا والله بزيادة : " هذا " ، قلت : هذا والله زيادة ضرر ، ولا أظن أن لها صحة في الرواية لعدم صحتها في الدارية إذ لا خفاء في ركاكة : " إذا هذا والله تجدني كاسدا " ، ولعله تحريف هنا أي : في هذا المكان من السوق أو مقام العرض فله وجه هاهنا ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن ) وفي نسخة ولكن ( عند الله لست بكاسد ) الظرف متعلق بكاسد قدم عليه ، وعلى عامله للاهتمام ، والاختصاص به ( أو قال : ) شك من الراوي ( أنت ) وفي نسخة لكن ( عند الله غال ) وهذا أبلغ من الأول ; فتأمل ; فإن المنطوق أقوى من المفهوم هذا .

وروى أبو يعلى أن رجلا كان يهدي إليه - صلى الله عليه وسلم - العكة من السمن أو العسل فإذا طولب بالثمن جاء بصاحبه فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم أعطه متاعه أي : ثمنه ، فما يزيد - صلى الله عليه وسلم - على أن يبتسم ، ويأمر به ; فيعطى . وفي رواية أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشتراها ثم جاء ثم جاء بها ، فقال : يا رسول الله هذه هدية لك ; فإذا طالبه صاحبها بثمنها جاء به ; فقال : أعط هذا الثمن ، فيقول ألم تهده لي ، فيقول ليس عندي ، فضحك ، ويأمر لصاحبه بثمنه ، قلت ، فكان رضي الله عنه من كمال محبته [ ص: 38 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - كلما رأى طرفة أعجبتها نفسه اشتراها ، وآثره - صلى الله عليه وسلم - بها وأهداها إليه على نية أداء ثمنها إذا حصل لديه فلما عجز ، وصار كالمكاتب رجع إلى مولاه ، وأبدى إليه صنيع ما ولاه ، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ; فرجع بالمطالبة إلى سيده ففعله هذا جد حق ممزوج بمزاح صدق والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية