الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبي سلمة ) أي : ابن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرة ( عن أم سلمة قالت : ما رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان قيل سمي شعبان لتشعبهم في طلب المياه ، والأولى ما قيل لتشعبهم في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام ، وقيل غير ذلك .

فإن قلت : هذا الحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - صام شعبان كله ، وهو معارض لما سبق من أنه ما صام شهرا كاملا غير رمضان .

قلت المراد به أنه صام أكثره ; فإنه وقع في رواية مسلم كان يصوم شعبان كله كان يصومه إلا قليلا منه .

قال النووي : الثاني مفسر للأول ، وبيان أن قولها كله أي : غالبه فقول أم سلمة هاهنا شهرين متتابعين محمول على أنها لم تعتبر الإفطار القليل منه ، وحكمت عليه بالتتابع لقلته ، وقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال : جاء في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر يقال صام الشهر كله ، ويقال قام فلان ليلته أجمع ، ولعله قد تعشى ، واشتغل ببعض حاجته قال الترمذي : وكان ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك ، وحاصله أن المراد بالكل هو الأكثر ، وهو مجاز قليل الاستعمال ، ولذا استبعده الطيبي معللا بقوله ; لأن الكل تأكيد إرادة الشمول ودفع التجوز ، فتفسيره بالبعض مناف له قال : فيحمل على أنه كان يصومه كله في وقت ، ويصوم بعضه في وقت آخر لئلا يتوهم أنه واجب كرمضان فعلى هذا مراد عائشة ، وابن عباس من قولهما ما صام شهرا ما صامه على الدوام ، وقيل المراد بقولهما " كله " أنه كان يصوم ولا يخص بعضه بصيام دون بعض على أنه - صلى الله عليه وسلم - صام شعبان كله ، واطلعت عليه أم سلمة ، ولم يطلع عليه ابن عباس ، وعائشة لكن لا يخلو عن بعد ، وجمع أيضا بأنه كان قبل قدومه المدينة قد يستكمل صوم شعبان أخذا من قول عائشة فيما مر منذ قدم المدينة والله سبحانه أعلم .

وأما قول ابن حجر أن هذا الجمع لا يصح ; لأن صوم رمضان إنما فرض في المدينة في شعبان في السنة الثانية من الهجرة ، وفي مكة لم يحفظ عنه - صلى الله عليه وسلم - سرد صوم لا في شعبان ولا في غيره .

فمدفوع بأنه يحتمل كلامها أنها رأته يصوم شعبان [ ص: 120 ] متتابعا في مكة أو بلغها من غيرها ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، فلا منع من الجمع ، وقال ابن المنير : يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول فأول أمره كان يصوم أكثره ، وآخره كان يصوم كله ذكره ميرك ، وقال العسقلاني : لا يخفى تكلفه وقال ابن حجر ولم أدر ما الحامل له على الجمع بهذا الذي هو على عكس الترتيب اللفظي مع أن الجمع بما يوافق الترتيب اللفظي أوجه أي : كان أول أمره يصوم كله فلما أسن وضعف صار يصوم أكثره قلت لعل الحامل وجهان أحدهما أنه الأولى منظرا إلى الترقي إلى المقام الأعلى لا سيما وقد أكد أمر الصوم في الأخر بفرضية رمضان فقابله بزيادة الإحسان على الإحسان ، وثانيهما أن رواية النفي مطلقة ، ورواية الإثبات مقيدة بالرؤية ، والظاهر أن الرؤية متأخرة لدلالتها على كمال قربها ، وقوة حفظها والله سبحانه أعلم .

( قال أبو عيسى ) أي : المص ( هذا ) أي : هذا الإسناد المذكور سابقا ( إسناد صحيح ) أي : على شرط الشيخين كما ذكره ابن حجر ( وهكذا قال ) أي : روى ابن أبي الجعد ( عن أبي سلمة عن أم سلمة ، وروى هذا الحديث غير واحد عن أبي سلمة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن يكون أبو سلمة بن عبد الرحمن قد روى هذا الحديث عن عائشة وأم سلمة جميعا ) أي : معا وهو غير موجود في جميع النسخ ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ) قال ميرك : ويؤيده أن محمد بن إبراهيم التيمي رواه عن أبي سلمة عن عائشة تارة ووافقه يحيى بن أبي كثير ، وأبو النضر عند البخاري ومسلم ومحمد بن إبراهيم وزيد بن أبي غياث عند النسائي وخالفهم يحيى بن سعيد ، وسالم بن الجعد فروياه عن أبي سلمة عن أم سلمة ، وقال ابن حجر : يتعين هذا الاحتمال لتصح الروايتين ، وتسلما من الاضطراب ; فإن أبا سلمة بن عبد الرحمن كان يروي من كل من عائشة وأم سلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية