الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان ) أي : الثوري ذكره ميرك ( عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابنة له تقضي ) بفتح التاء وكسر الضاد أي : تريد أن تموت من القضاء بمعنى الموت ، وقيل أصل قضى مات فاستعماله هنا للإشراف على الموت مجاز وقال الأزهري : القضاء مرجعه إلى انقطاع الشيء وتمامه ( فاحتضنها ) أي : جعلها في حضنه بالكسر أي : جنبه ، وهو ما دون الإبط إلى الكشح ، وبه سميت الحاضنة ، وهي التي تربي الطفل ، لأن المربي والكافل يضم الطفل إلى حضنه ، والحضانة بالفتح فعلها كذا في النهاية ( فوضعها ) أي : بعد ساعة ( بين يديه فماتت وهي بين يديه وصاحت ) من الصيحة ، وفي بعض النسخ فصاحت ( أم أيمن ) وهي حاضنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومولاته ورثها من أبيه وأعتقها حين تزوج خديجة ، وزوجها لزيد مولاه فولدت له أسامة ، وتوفيت بعد عمر بعشرين يوما ، وقد شهدت أحدا وكانت تسقي الماء ، وتداوي الجرحى ، وشهدت خيبر وتفصيل ترجمتها في جامع الأصول ، ثم لما كان بكاؤها بصياح ورفع الصوت بالبكاء مع إشعاره بالجزع حراما على ما ذكره ابن حجر أنكر عليها ( فقال : يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وهذا تفسير من التابعي ، والضمير في يعني راجع إلى ابن عباس ( أتبكين ) بهمزة الاستفهام الإنكاري ( عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وعدل إليه عن عندي ; لأنه أبلغ في الزجر ( فقالت ) أي : أم أيمن ظنا بأن مطلق البكاء جائز ( ألست أراك ) بفتح الهمزة أي : أبصرك وأشاهدك ( تبكي ) حال ( قال : إني لست أبكي ) أي : بكاء على سبيل الجزع ، وعدم الصبر ، ولا يصدر عني ما نهى الله عنه من الويل ، والثبور والصياح ، ونحو ذلك ( إنما هي ) أي : البكاء والتأنيث باعتبار الدمعة أو قطرة الدمع أو الخبر ، وهو قوله ( رحمة ) أي : أثرها وزاد في الصحيحين جعلها الله في قلوب عباده الرحماء .

ولا ينافي هذا قول عائشة ما بكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ميت قط ، وإنما غاية حزنه أن يمسك لحيته [ ص: 152 ] لأن مرادها ما بكى على ميت أسفا عليه بل رحمة له ، ويؤيده ما ورد : إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي الرب ، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون ( إن المؤمن ) أي : الكامل ( بكل خير ) الباء للملابسة ( على كل حال ) ; لأنه يشهد المحنة عين المحنة ، فيحمد على المنة ، ولهذا قال ( إن نفسه ) أي : روحه ( تنزع ) بصيغة المفعول أي : تقبض ( من بين جنبيه وهو ) أي : والحال أنه ( يحمد الله تعالى ) ; فإنه مشغول حينئذ بالحق ، وعبادته بالرضاء على قضائه ، وإرادته والمعنى ينبغي أن يكون الكامل ملابسا بكل خير على كل حال من أحواله حتى إنه في نزع روحه يحمد الله تعالى ، ويراه من الله سبحانه رحمة له ، وكرامة وخيرا له من حياته ، فإن الموت تحفة المؤمن وهدية الموقن .

ثم اعلم أن رواية النسائي في هذا الحديث فلما حضرت بنت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صغيرة أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضمها إلى صدره ثم وضع يده عليها فقبضت وهي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت أم أيمن ، الحديث .

قال ميرك : وهذا الحديث لا يخلو عن إشكال ; لأن المراد من قوله ابنة له ، وبنت له صغيرة إما بنته حقيقة كما هو ظاهر اللفظ ، فهو مشكل ; لأن أرباب السير ، والحديث والتواريخ أطبقوا على أن بناته - صلى الله عليه وسلم - كلهن متن في حالة الكبر ، وإما أن يراد إحدى بناته ، ويكون إضافتها إليه مجازية ، فهذا ليس ببعيد لكن لم ينقل أن ابنة إحدى بناته ماتت في حالة الصغر إلا ما وقع في مسند أحمد عن أسامة بن زيد قال : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمامة بنت أبي العاص من زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي في النزع لكنه أشكل من حيث أن أهل العلم بالأخبار اتفقوا على أن أمامة عاشت بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تزوجها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بعد وفاة فاطمة ثم عاشت عند علي حتى قتل عنها ، ولذا حملوا رواية أحمد أنها أشرفت على الموت ثم عافاها الله تعالى ببركة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإما أن يقال وقع وهم في هذا الحديث إما في قوله تقضي وقوله ، وهو يموت بين يديه ، والصواب ابنه وإذا كان كذلك ، فيحتمل أن يكون المراد به أحد بنيه إما القاسم ، وإما عبد الله وإما إبراهيم ; فإنهم ماتوا صغارا في حياته ، ويحتمل أن يكون المراد ابن بعض بناته ، وهو الظاهر ففي الأسباب الميلادي أن عبد الله بن عثمان من رقية بنته - صلى الله عليه وسلم - مات في حجره فبكى ، وقال : إنما يرحم الله من عباده الرحماء .

وفي مسند البزار عن أبي هريرة قال : ثقل ابن لفاطمة فبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، وفيه مراجعة سعد بن عبادة في البكاء ، والابن المذكور هو محسن بن علي وقد اتفق أهل العلم بالأخبار أنه مات صغيرا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا غاية التحقق في هذا الحديث ولم أر من تعرض لهذا ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .

التالي السابق


الخدمات العلمية