الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا سيار ) بفتح مهملة وتشديد تحتية ( حدثنا سهل بن أسلم عن يزيد بن أبي منصور عن أنس عن أبي طلحة قال شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر ) ذكر ميرك نقلا عن الطيبي أن عن الأولى متعلق برفعنا يتضمن معنى الكشف والثانية صفة مصدر محذوف ، أي : كشفنا ثيابنا عن بطوننا كشفا صادرا عن حجر حجر ، فالمعنى لك منا حجر واحد رفع عنه فالتكرير باعتبار تعدد المخبر عنهم بذلك قال : ويجوز أن يحمل التنكير في حجر على النوع أي : حجر مشدود على بطوننا فيكون بدلا ، وعادة من اشتد جوعه وخمص بطنه أن يشد حجرا على بطنه ليتقوم به صلبه ، قيل ولئلا ينتفخ ، وقال زين العرب : عن حجر بدل اشتمال عما قبله بإعادة الجار كما تقول : زيد كشف عن وجهه عن حسن خارق ، قال ابن حجر : فزعم أن هاهنا حرف عطف حذف غير محتاج إليه بل ربما يفسد المعنى لإنهائه حينئذ أن لكل حجرين ، وكذا زعم أن التقدير : عن حجر منفصل عن حجر آخر ، فالحجر الأخير صفة الأول ، ثم ما قيل بدل الاشتمال لا يخلو عن ضمير المبدل منه ، ولا ضمير هنا ، فلا يصح البدل مدفوع بتقدير مشدود عليها فإن الضمير هنا مقدر وما قيل أيضا من أن تعلق حرفي جر متحدي المعنى بعامل واحد ممنوع رد بأن هذين الحرفين في حكم حرف واحد ؛ لأن المبدل منه في نية المطروح كما هو مقرر مع معناه في محله ومبناه ( فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه عن حجرين ) قال صاحب المظهر : عادة أصحاب [ ص: 234 ] الرياضة وكذا العرب وأهل المدينة إذا اشتد جوعهم وخليت بطونهم أن يربط كل واحد منهم حجرا على بطنه كيلا يسترخي بطنه ولئلا ينزل أمعاؤه فيشق عليه التحرك فإذا يربط حجرا على بطنه يشتد بطنه وظهره فيسهل عليه الحركة ومن كان جوعه أشد يربط على بطنه حجرين ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرهم جوعا وأشدهم رياضة ، فربط على بطنه حجرين ، وربط كل واحد منهم حجرا ، وقال صاحب الأزهار : في ربط الحجر على البطن أقوال أحدها : أن ذلك يخص أحجارا بالمدينة تسمى المشبعة ، كانوا إذا جاع أحدهم يربط على بطنه حجرا من ذلك وكان الله تعالى خلق فيه برودة تسكن الجوع وحرارته ، وقال بعضهم يقال : لمن يؤمر بالصبر : اربط على قلبك حجرا فكأنه - صلى الله عليه وسلم - يؤمر بالصبر ، وأمر أمته هو بالصبر قالا وحالا ، والله أعلم ، نقله ميرك ، لكن كلاهما لا يصلح للمقام ، أما الأول فإنه عليه السلام ما أراد برفع الثوب عن حجرين إلا الإشارة إلى أن جوعه أشد فلا يناسبه التسلية بتسكين الجوع وحرارته ببرودة الحجر مع أن هذا بعيد عن العادة ، ولم يعرف في المدينة حجر بهذه المثابة ، وأما الثاني فلأنه مجاز معنوي وفعله - صلى الله عليه وسلم - صادر عن حجر حقيقي ، وقيل حكمة ربط الحجر أنه يسكن بعض ألم الجوع ؛ لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام قلت الحرارة به ، فإذا نفذ اشتغلت برطوبات الجسم وجواهره فيحصل التألم حينئذ ويزداد ما لم يضم إلى المعدة الأحشاء والجلد ، فإن نارها حينئذ تخمد بعض الخمود ، فيقل الألم انتهى .

فيفيد أن شد الحجر على قدر ألم الجوع فكلما زيد زيد ، والله أعلم .

( قال أبو عيسى ) أي المص ( هذا ) أي : الحديث السابق ( حديث غريب من حديث أبي طلحة ) أي : غرابته ناشئة من طريق أبي طلحة لا من سائر الطرق ( لا نعرفه إلا من هذا الوجه ) قال ميرك : ورواته ثقات يعني فلا يضره الغرابة فإنها لا تنافي الحسن والصحة ، فإن الغريب ما يتفرد بروايته عدل ضابط من رجال النقل فإن كان التفرد برواية متنه فهو غريب متنا ، وإن كان بروايته عن غير المعروف عنه كأن يعرف عن صحابي فيرويه عدل وحده عن صحابي آخر فهو غريب إسنادا ، وهذا هو الذي يقول فيه الترمذي غريب من هذا الوجه ، وقال المصنف أيضا ( ومعنى قوله ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر كان أحدهم يشد على بطنه الحجر من الجهد ) بضم الجيم ، وفي نسخة بفتحها فقيل بالضم الوسع والطاقة وبالفتح المشقة ، وقيل المبالغة والغاية ، وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة فأما المشقة والغاية فالفتح لا غير كذا في النهاية ، ثم من تعليلية ، والمعنى من أجل الجهد ( والضعف ) بفتح أوله ، ويجوز ضمه ، وهو كالتفسير لما قبله ، ولذا قال ( الذي به من الجوع ) بإفراد الموصول ومن بيانية للموصول أو ابتدائية أي : من أجل ألم الجهد والضعف الذي حصل به ناشئ من الجوع الشديد ، هذا واستشكل الحديث بما في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تواصلوا ، فقالوا : إنك تواصل فقال إني لست كأحدكم إني أطعم وأسقى ، وفي رواية يطعمني ويسقيني ، وفي رواية إني أظل عند ربي يطعمني [ ص: 235 ] ويسقيني وبهذا تمسك ابن حبان في حكمه ببطلان الأحاديث الواردة بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجوع ويشد الحجر على بطنه من الجوع ، قال : وإنما معناه الحجز بالزاي ، وهو طرف الإزار إذ ما يغني الحجر من الجوع .

وأجيب بأن عدم الجوع خاص بالمواصلة فإذا واصل يعطى قوة الطاعم والشارب أو يطعم ويسقى حقيقة ، وأما في غير حال المواصلة فلا يرد فيه ذلك فوجب الجمع بين الأحاديث بحمل الأحاديث الصريحة على جوعه على غير حالة المواصلة إذ تحقق الجوع وربط الحجر ثابت في الأحاديث .

منها ما سبق مع اتفاق الرواة واجتماع الأصول على ضبط الحجر بالراء ، ومنها ما روى ابن أبي الدنيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصابه جوع يوما فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه ، ثم قال : ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية ، ألا رب مكرم لنفسه ، وهو لها مهين ، ألا رب مهين لنفسه ، وهو لها مكرم ، ومنها ما في الصحيح عن جابر : كنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية ، وهي بضم كاف وسكون دال مهملة فتحتية قطعة صلبة فجاءوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق ، فقام وبطنه معصوب بحجر ، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ - صلى الله عليه وسلم - المعول فضربه فعاد كثيبا أهيل أو أهيم ، وهو بمعنى واحد ، زاد أحمد والنسائي بإسناد حسن أن تلك الصخرة لا تعمل فيها المعاول وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : بسم الله وضربها ضربة فنشر ثلثها ، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر ، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس وإني والله لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن ، ثم ضرب الثالثة فقال بسم الله ، فقطع بقية الحجر فقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة ، ومما أكرم الله سبحانه به نبيه عليه السلام أنه مع تألمه بالجوع ليضاعف له الأجر حفظ كمال قوته وصان نضارة جسمه حتى إن من رآه لا يظن به جوعا بل كان جسمه الشريف ووجهه اللطيف أشد رونقا وبهاء من أجساد المترفين ، ثم مما يدل على إثبات الجوع له - صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عائشة ( من حدثكم أنا كنا نشبع من التمر فقد كذبكم ، فلما فتحت قريظة أصبنا شيئا من التمر والودك ، وهو محركة الدسم ، ومنها مما رواه المصنف بقوله .

التالي السابق


الخدمات العلمية