الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3875 137 - حدثنا خلاد بن يحيى ، حدثنا عبد الواحد بن أيمن ، عن أبيه قال : أتيت جابرا رضي الله عنه فقال : إنا يوم الخندق نحفر ، فعرضت كدية شديدة ، فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق ! فقال : أنا نازل . ثم قام وبطنه معصوب بحجر ، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول فضرب فعاد كثيبا أهيل أو أهيم ! فقلت : يا رسول الله ، ائذن لي إلى البيت ! فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ما كان في ذلك صبر ، فعندك شيء ؟ قالت : عندي شعير وعناق - فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ، ثم جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج ، فقلت : طعيم لي ، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان ! قال : كم هو ؟ فذكرت له ، قال : كثير طيب ! قال : قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي ! فقال : قوموا ! فقام المهاجرون والأنصار ، فلما دخل على امرأته قال : ويحك ! جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين والأنصار ومن معهم ! قالت : هل سألك ؟ قلت : نعم . فقال : ادخلوا ولا تضاغطوا . فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع ، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا ، وبقي بقية ! قال : كلي هذا وأهدي ، فإن الناس أصابتهم مجاعة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله " يوم الخندق " ، وخلاد - على وزن فعال بالتشديد - ابن يحيى بن صفوان أبو محمد السلمي الكوفي ، مات بمكة قريبا من سنة ثلاث عشرة ومائتين ، وهو من أفراده .

                                                                                                                                                                                  وعبد الواحد بن أيمن - ضد الأيسر - يروي عن أبيه أيمن الحبشي مولى ابن أبي عمر المخزومي القرشي المكي ، من أفراد البخاري ، والحديث أيضا من أفراده .

                                                                                                                                                                                  قوله " يوم الخندق " نصب على الظرف .

                                                                                                                                                                                  قوله " نحفر " خبر " إن " .

                                                                                                                                                                                  قوله " كدية " بضم الكاف وسكون الدال المهملة وبالياء آخر الحروف ، وهي القطعة الصلبة من الأرض لا يؤثر فيها المعول ، ووقع في رواية أبي ذر " كبدة " بفتح الكاف وسكون الباء الموحدة قبل الدال ، وقال عياض : كأن المراد أنها واحدة الكبد وهو الجبل . وقال الخطابي : كبدة بالباء الموحدة إن كانت محفوظة فهي القطعة من الأرض الصلبة ، وأرض كبداء وقوس كبداء أي شديدة . ووقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني " كندة " بنون ، وعند ابن السكن " كتدة " بفتح التاء المثناة من فوق ، وقال عياض : لا أعرف لها معنى . وفي رواية " كذانة " بذال معجمة ونون وهي القطعة من الجبل ، وعند ابن إسحاق " صخرة " ، وفي رواية " عبلة " وهي الصخرة الصماء وجمعها عبلات ويقال لها العبلاء والأعبل وكلها الصخرة .

                                                                                                                                                                                  قوله " وبطنه معصوب بحجر " ، زاد يونس في روايته " من الجوع " ، وفي رواية أحمد " أصابهم جهد شديد حتى ربط النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - على بطنه حجرا من الجوع " ، فإن قلت : ما كان فائدة ربط الحجر ؟ فهل ذلك يدفع الجوع أم لا ؟ قلت : قيل إن البطن يضمر من الجوع ، فيربط الحجر على البطن ليدفع انحناء الصلب ; لأن الجائع ينحني صلبه إذا اشتد به الجوع . وقال الكرماني : فائدته تسكين حرارة الجوع ببرودة الحجر ، أو ليعتدل قائما ، أو لأنها حجارة رقاق [ ص: 180 ] تشد العروق والأمعاء فلا ينحل مما في البطن فلا يحصل ضعف زائد بسبب التحلل . وقال ابن حبان : الصواب الحجز بالزاي ، إذ لا معنى لشد الحجر على البطن من الجوع - ورد عليه بما جاء في الرواية التي تأتي " رأيت بالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - خمصا شديدا " والخمص الجوع ، قلت : فيه نظر لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  قوله " ذواقا " بفتح الذال المعجمة ، وقال ابن الأثير : الذواق المأكول والمشروب ، فعال بمعنى مفعول ، من الذوق ، ويقع على المصدر والاسم ، يقال ذقت الشيء أذوقه ذوقا وذواقا ، وما ذقت ذواقا أي شيئا .

                                                                                                                                                                                  قوله " المعول " بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو وفي آخره لام ، وهو الفأس الذي يكسر به الحجر ، وقال بعضهم : المعول المسحاة . قلت : هذا التفسير غير صحيح ، والمعول الفأس كما ذكرنا ، والميم فيه زائدة ، والمسحاة المجرفة من الحديد والميم فيها أيضا زائدة لأنها من السحو وهو الكشف والإزالة ، ومن الدليل على المغايرة رواية أحمد رحمه الله " فأخذ المعول أو المسحاة " بالشك .

                                                                                                                                                                                  قوله " فضرب " ; أي الكدية ، وفي رواية الإسماعيلي " ثم سمى ثلاثا ثم ضرب " ، وعند الحارث بن أبي أسامة من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان قال : ضرب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - في الخندق ثم قال :


                                                                                                                                                                                  بسم الله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا حبذا ربا وحبذا دينا

                                                                                                                                                                                  قوله " كثيبا " بفتح الكاف وكسر الثاء المثلثة ، هو الرمل ، قال الله تعالى : كثيبا مهيلا ; أي تفتت حتى صار كالرمل يسيل ولا يتماسك .

                                                                                                                                                                                  قوله " أهيل " ، الأهيل هو أن ينهال فيسيل من لينه ويتساقط من جوانبه ، وفي رواية أحمد " كثيبا يهال " .

                                                                                                                                                                                  قوله " أو أهيم " شك من الراوي ; أي أو عاد كثيبا أهيم ، وهو بمعنى الأهيل ، والهيام من الرمل ما كان دقاقا يابسا ، وفي رواية الإسماعيلي " أهيل " بغير شك ، وكذا في رواية يونس ، وقال عياض : ضبطها بعضهم " أهثم " بالثاء المثلثة ، وبعضهم بالتاء المثناة من فوق وفسرها بأنها تكسرت ، والمعروف بالياء آخر الحروف .

                                                                                                                                                                                  قوله " ائذن لي إلى البيت " ; أي ائذن لي حتى آتي بيتي .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقلت لامرأتي " ، وفيما قبله حذف تقديره فأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يأتي إلى بيته فقال ما ذكر هنا وهو قوله " فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - شيئا " ; يعني من الجوع ، واسم المرأة سهيلة بنت مسعود بن أوس الظفرية الأنصارية ، بايعت .

                                                                                                                                                                                  قوله " عندي شعير " ، بين يونس بن بكير في روايته أنه صاع .

                                                                                                                                                                                  قوله " عناق " بفتح العين ; الأنثى من أولاد المعز .

                                                                                                                                                                                  قوله " فذبحت " ، الذابح هو جابر ، يخبر عن نفسه بذلك .

                                                                                                                                                                                  قوله " وطحنت " ; أي امرأته ، وفي رواية أحمد عن سعيد " فأمرت امرأتي فطحنت وصنعت لنا خبزا " .

                                                                                                                                                                                  قوله " حتى جعلنا " ، وفي رواية الكشميهني " حتى جعلت " .

                                                                                                                                                                                  قوله " في البرمة " بضم الباء الموحدة وسكون الراء ، وهي القدر مطلقا ، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن .

                                                                                                                                                                                  قوله " والعجين قد انكسر " ; يعني لان وتمكن فيه الخمير .

                                                                                                                                                                                  قوله " الأثافي " بفتح الهمزة جمع الأثفية بضم الهمزة ، وقد تخفف الياء في الجمع ، وهي الحجارة التي تنصب وتوضع القدر عليها ، يقال أثفيت القدر إذا جعلت لها الأثافي ، وثفيتها إذا وضعتها عليها ، والهمزة فيه زائدة .

                                                                                                                                                                                  قوله " طعيم " مصغر طعام ، صغره لأجل قلته ، وقال ابن التين : ضبطه بعضهم بتخفيف الياء وهو غلط - قلت : لأن طعيم بتخفيف الياء تصغير طعم لا تصغير الطعام .

                                                                                                                                                                                  قوله " لي " صفة " طعيم " ; أي مصنوع لأجلي .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقم أنت يا رسول الله ورجل " ، قوله " أو رجلان " شك من الراوي ، وفي رواية يونس " ورجلان " بلا شك .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال : كم هو ؟ " ; أي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كم طعامك .

                                                                                                                                                                                  قوله " فذكرت له " ; أي لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وبينت له الطعام .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال : كثير طيب " ; أي فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - طعام كثير طيب .

                                                                                                                                                                                  قوله " لا تنزع البرمة " ; أي من فوق الأثافي .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولا الخبز " ; أي ولا تنزع الخبز من التنور .

                                                                                                                                                                                  قوله " حتى آتي " ; أي إلى أن آتي بيتكم ، أي أجيء .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال : قوموا " ; أي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن كان عنده من الصحابة " قوموا " إلى أكل جابر .

                                                                                                                                                                                  قوله " قالت : هل سألك ؟ " ; أي قالت امرأة جابر له هل سألك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حال الطعام ، وفي رواية يونس " فقالت : الله ورسوله أعلم ، نحن قد أخبرنا بما عندنا " ، وفي رواية أبي الزبير عن جابر أنها قالت لجابر : فارجع إليه فبين له - فأتيته فقلت : يا رسول الله ، إنما هو عناق وصاع من شعير ! قال : فارجع ولا تحركن شيئا من التنور ولا من القدر حتى آتيها ، واستعر صحافا " .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال : ادخلوا " ; أي فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لمن معه من المهاجرين والأنصار " ادخلوا " الدار .

                                                                                                                                                                                  قوله " ولا تضاغطوا " ; أي ولا تزدحموا ، ومادته ضاد وغين معجمتان وطاء مهملة ، من الضغطة .

                                                                                                                                                                                  قوله " فجعل " ; أي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأهدي " بهمزة قطع ، من الإهداء لا من الهدية كما قال بعضهم .

                                                                                                                                                                                  قوله " فإن الناس ... " إلى آخره - بيان سبب [ ص: 181 ] الإهداء ، وفي رواية يونس " كلي وأهدي - فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع " ، وفي رواية أبي الزبير عن جابر " فأكلنا وأهدينا لجيراننا " ، وهذا كله من علامات النبوة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية