الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1632 301 - حدثنا مسدد قال: حدثنا يحيى، عن ابن جريج قال: حدثنا عطاء، سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى، فرخص لنا النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا. قلت لعطاء: أقال: حتى جئنا المدينة؟ قال: لا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: " كلوا وتزودوا".. إلخ، ورجاله قد تكرر ذكرهم، ويحيى هو ابن سعيد القطان البصري، وابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، وعطاء هو ابن أبي رباح المكي.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم أيضا في الأضاحي، عن أبي بكر، عن علي بن مسهر، وعن يحيى بن أيوب، عن أيوب، عن إسماعيل بن علية، وعن محمد بن حاتم، عن يحيى، وأخرجه النسائي في الحج، عن عمرو بن علي عن يحيى، وعن عمران بن يزيد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " فوق ثلاث منى" بإضافة ثلاث إلى منى؛ أي: الأيام الثلاثة التي كنا بمنى وهي الأيام المعدودات. قوله: " قلت لعطاء" القائل هو ابن جريج. قوله: " أقال" الهمزة فيه للاستفهام؛ أي: أقال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: جابر لا، يعني لم يقل جابر: حتى جئنا المدينة، ووقع في مسلم: " قال: نعم" بدل قوله: " لا"، فروى مسلم من حديث ابن جريج " حدثني عطاء قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: كلوا وتزودوا. قلت لعطاء: أقال جابر: حتى جئنا المدينة؟ قال: نعم.

                                                                                                                                                                                  والتوفيق بين قوله: " لا" وقوله: " نعم" أن يحمل على أنه نسي فقال: لا، ثم تذكر فقال: نعم، وحديث جابر هذا يخالف ما رواه مسلم، " عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث"، وفي لفظ: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال، فلا تأكلوا "، وروي أيضا عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام".

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي: اختلف العلماء في الأخذ بهذه الأحاديث فقال قوم: يحرم إمساك لحوم الأضاحي والأكل منها بعد ثلاث، وأن حكم التحريم باق كما قاله علي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، وقال جماهير العلماء: يباح الأكل والإمساك بعد الثلاث، والنهي منسوخ بحديث جابر هذا وغيره، وهذا من نسخ السنة بالسنة، وقال بعضهم: ليس هو نسخا، بل كان التحريم لعلة، فلما زالت زال التحريم، وتلك العلة هي الدافة، وكانوا منعوا من ذلك في أول الإسلام من أجل الدافة، فلما زالت العلة الموجبة لذلك أمرهم أن يأكلوا ويدخروا، وروى مسلم من حديث مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن واقد قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث. قال عبد الله بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ادخروا ثلاثا، ثم تصدقوا بما بقي، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويحملون فيها الودك، فقال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم-: وما ذاك؟ قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا".

                                                                                                                                                                                  قال أهل اللغة: الدافة، بتشديد الفاء، قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا، من دف يدف، بكسر الدال، ودافة الأعراب: من يرد منهم المصر، والمراد هنا: من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة، وقيل: كان النهي الأول للكراهة لا للتحريم، قال هؤلاء: والكراهة باقية إلى يومنا هذا ولكن لا يحرم، قالوا: ولو وقع مثل تلك العلة اليوم فدفت دافة واساهم الناس، وحملوا على هذا مذهب علي وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، والصحيح نسخ النهي مطلقا، وأنه لم يبق تحريم ولا كراهة، فيباح اليوم الادخار فوق ثلاثة، والأكل إلى ما شاء؛ لصريح حديث جابر، وحديث بريدة أيضا يدل على ذلك، وأخرجه مسلم من حديث عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم-: " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم.." الحديث، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا.

                                                                                                                                                                                  واختلف في مقدار ما يؤكل منها وما يتصدق، فذكر علقمة أن ابن [ ص: 58 ] مسعود - رضي الله تعالى عنه- أمره أن يتصدق بثلثه، ويأكل ثلثه ويهدي ثلثه، وروي عن عطاء، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال الثوري: يتصدق بأكثره، وقال أبو حنيفة: ما يجب أن يتصدق بأقل من الثلث، وقال صاحب الهداية: ويأكل من لحم الأضحية، قال: هذا في غير المنذورة، أما في المنذورة فلا يأكل الناذر، سواء كان معسرا أو موسرا، وبه قالت الثلاثة، أعني مالكا والشافعي وأحمد، وعن أحمد: يجوز الأكل من المنذورة أيضا.

                                                                                                                                                                                  ثم الأكل من الأضحية مستحب عند أكثر العلماء، وعند الظاهرية واجب، وحكي ذلك عن أبي حفص الوكيل من أصحاب الشافعي. قال صاحب الهداية: ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر، ثم روى حديث جابر - رضي الله تعالى عنه- الذي أخرجه مسلم، عن أبي الزبير عنه، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، ثم قال بعد: كلوا وتزودوا وادخروا". انتهى.

                                                                                                                                                                                  قال: " ومتى جاز أكله وهو غني، جاز أن يؤكله غنيا، ثم قال: ويستحب أن لا تنقص الصدقة من الثلث؛ لأن الجهات ثلاثة؛ الأكل، والادخار، والإطعام، فانقسم عليها أثلاثا.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية