الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - المطلب الثالث: وضع الوقف اليوم وموقفه من مؤسسات الرعاية الصحية:

              تبين لنا من خلال العرض السريع في الفقرة السابقة، ما قدمه الوقف، كمؤسسة إسلامية أو كنظام إسلامي، في مجال الرعاية الصحية لأفراد المجتمع الإسـلامي على اختلاف فئاتهم العمرية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية، وما أسهمت به أموال الأوقاف في دعم التقدم العلمي في كافة المجالات وفي مجال الطب والتمريض والصيدلة خاصة. وقد كان ذلك كله ضمن منظومة الأنشطة الوقفية والأعمال الخيرية التي عمت المجتمعات الإسلامية خلال تلك العصور، وأسهمت في تقدمها في كافة المجالات.

              وقد خبت جذوة هذه الأنشطة وتراجع دور الوقف في العصور المتأخرة حتى أصبح اليوم مقصورا على بعض الأعمـال الخيرية مثل بناء المسـاجد [ ص: 174 ] أو بعض الأربطة والأضاحي وما إلى ذلك من أعمال خيرية محدودة النفع. وقد ساعد على هذا الوضع فتور همة الكثير من المسلمين في إيقاف أموالهم لأعمال البر ذات النفع العام لأسباب كثيرة – سبقت الإشارة إلى بعضها في المبحث الأول – ومنها تغير نمط الحياة في العصور الحديثة حيث أصبحت الحكومات تتولى الإشراف على كافة الخدمات المقدمة للمواطنين ومن أهمها الخدمات الصحية، وكذلك استيلاء كثير من الحكومات على الكثير من الأوقاف السابقة في كافة أنحاء العالم الإسلامي إلا ما ندر، مما لم يبق أمام الناس نماذج حية لأعمال الوقف التي يشاهدون ثمارها في خدمة مجتمعاتهم ويحاولون دعمها والإكثار منها، حيث لا يكاد يوجد مسـتشفى واحد، على سـبيل المثال، من تلك المسـتشفيات الكبرى التي أشرنا إليها والتي بقي آخرها إلى بداية القرن الماضي وخاصـة في تركيا، حيث عمد كمال أتاتورك إلى محو الأوقاف الإسلامية، حتى أنه أحال آخر مسـتشفى منها عام 1927م إلى مخزن للتبغ [1] .

              والمتتبع لإحصاءات وزارات الأوقاف في بعض دول العالم الإسلامي اليوم، وخاصة الغنية منها، لا يكاد يجد ما يشير إلى الوقف في مجال الرعاية الصحية. وعلى سبيل المثال: في المملكة العربية السعودية، تشير إحصاءات وزارة الشؤون الإسلامية إلى أن نسبة 60.4% من الأوقاف المخصصة للشؤون الخيرية، غير المساجد وشؤون الدعوة، قد خصصت للفقـراء، وأن [ ص: 175 ] 31.2% مخصص للأربطة، ونسبة 8.2% مخصصة لأوجه أخرى متفرقة وتحتوي على أوقاف غير مخصصة [2] .

              وقد عانى الوقف في دول الخليج العربي من الأعراض نفسها، التي عانى منها الوقف في باقي دول العالم الإسلامي، إضافة إلى أن الوفرة الاقتصادية النفطية أدت إلى قيـام الحكـومات بالـدور الرئيس في التنمية، مما أدى إلى انكماش وتقلص العمل التطوعي، والوقف على وجه الخصوص، وقصرت أعمال الوقف على بعض المجالات ذات النفع الاجتمـاعي المحدود - كما سبق - وعندما انحسرت الطفرة الاقتصادية، وبدأت تظهر بعض الأزمات في ظل تزايد أعداد السكان وتزايد الطلب على الخدمات من جهة وتراجع إمكانيات الدول وعجز السلطات عن مواجهة هذه الطلبات من جهة أخرى، بدت الحاجة ماسة من جديد لإحياء دور الوقف ومشاركته في التنمية ودراسة أسباب القصور في هذا الجانب ومحاولة علاجها.

              ومن خلال تتبع هذا النظام الإسلامي (الوقف) عبر التاريخ يتبين لنا أن له إيجابيات كثيرة وقدرات كبيرة في مجال تخفيف العبء المالي على ميزانية الدولة والإسهام في خدمة المجتمع، ولكن مع هذه الإمكانيات والقدرات فإن واقع نظام الوقف اليوم بحاجة إلى بعض التطوير من حيث الممارسة والتنظيم حتى يواكب احتياجات المجتمعات الإسلامية ويلبي متطلباتها في كافة المجالات ومنها المجال الصحي. [ ص: 176 ] فالعناية بالأوقاف الإسلامية في هذا العصر ضرورة إنسانية ملحة، حيث إن لها أهمية بالغة للإسهام في إنقاذ البشرية المتضررة عامة، والأمة المسلمة بصفة خاصة.. فالحروب العرقية الشرسة والخلافات الطائفية المدمرة، والكوارث المفاجئة المختلفة، مثل: الزلازل، والبراكين، والفيضانات، وغيرها من النوازل والمصائب، والمآسي، جعلت اليوم مالا يقل عن 50 مليون من البشر (منهم 80% من المسلمين) يعانون معاناة مؤلمة من نقص في الطعام والغذاء والدواء والكساء والملجأ، بسبب تعرضهم لعمليات التشريد، والتهجير، والطرد من الأوطـان [3] ؛ ذلك أن أهـداف الوقف في الإسلام، لا تقتصر، كما هو معلوم، على بناء المساجد أو مساعدة الفقراء بالمال، بل تتعدى ذلك إلى تقديم النفع العام للمسلمين كافة وفي المجالات كافة -كما تقدم ذكره- حتى أن الأوقاف الإسلامية شملت غير المسلمين، بل نص بعضها على العناية بالحيوانات المريضة والهرمة.

              وقد تنبه العالم الإسلامي إلى ذلك.. ويعتبر البنك الإسلامي للتنمية من المهتمين بالأمر، حيث عقد ندوات تدعو إلى تنشيط الدور الاستثماري للوقف. كما قامت تجارب في العالم الإسلامي جديـرة بأن يستفاد منهـا، مثل مشـروع سنابل الخير الـذي خصص 15%من ريعه للخدمات الصحية. وكذلك المشروعات الوقفية التي تصرف على الخدمات الصحية للجنة مسلمي إفريقيا الكويتية. [ ص: 177 ] ومن التجارب الفعالة أيضا الصندوق الوقفي للتنمية الصحية، الذي أنشئ في الكويت للصرف على الخدمات الصحية بشمولها، حيث اهتم بإصدار النشرات في موضوعات التوعية الصحية، وتبنى مشروعات لتعزيز الصحة. يضاف إلى ذلك ما قام في مختلف دول العالم الإسلامي من تجارب حديثة، مثل جمعية المقاصد الخيرية اللبنانية، التي أقامت مسـتشفى يحوي 200 سرير يصرف عليه من الإيرادات الوقفية [4] .

              - ما يمكن أن يقدمه الوقف لدعم مؤسسات الرعاية الصحية مستقبلا:

              إن التجربة الإسلامية العريقة في مجال الوقف الصحي – التي أشرنا إلى بعض جوانبها – يمكن تكرارها اليوم، مع الأخذ في الاعتبار فوارق الزمن وتغير الآليات وتجدد الأساليب، حيث إن للوقف الإسلامي خصائص تجعله مناسبا للصرف على الخدمات الصحية في العصر الحالي، منها استمراريته، وثباته وحريته، ومرونته، فهو يهدف في النهاية إلى تحسين وتعزيز الصحة بشتى الوسائل. ويستطيع الوقف الإسلامي أن يكون رافدا كبيرا للخدمات الصحية التي تقدمها الحكومة. بل إنه كان الأصل في الصرف على الخدمات الصحية – كما سبق بيانه – ويمكن عند إعادة دور الوقف على الخدمات الصحية لما كان عليه أن تتفرغ الإدارات الحكومية لتنظيم الخدمات الصحية، وللتنسيق بينها والإشراف عليها [5] . [ ص: 178 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية