الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              - المطلب الثالث: التكييف الفقهي للصناديق الوقفية:

              إن استصدار الحكم الشرعي للصناديق الوقفية يتكون من خلال بيان التأصيل الفقهي لها وتحليل عناصرها، وبيان مواقف الفقهاء في كل منها.

              أولا: أركان الوقف وانطباقها على الصناديق الوقفية:

              قبل التطرق إلى أركان الوقف، لابد من الإشارة إلى أن أهمية الصناديق الوقفية، إنما تستمد مقوماتها من خلال كونها تجديدا للدعوة إلى الوقف، بعد السبات الذي أصابه ومحاولة إيذائه من جهات مختلفة، بعدما أثيرت ضده الشبهات. إن قيام الصناديق الوقفية يمثل إحياء للسنة، وتجديدا للدعوة إلى الله بأسلوب عصري، ومراعاة للتطور في الحياة والتقنيات والإدارة والمؤسسات.

              1- العين الموقوفة:

              تبين أن المال المتقوم يتحقق إذا ما توافر فيه شرطان، هما الحيازة وإمكانية الانتفاع به. وأما الشرط الأول فإن الأسهم التي سيتم وقفها في هذه الصناديق ستكون بالتأكيد ملكا للموقوف عليهم، حيث إن الهدف من الصناديق هو تجميع الأموال اليسيرة.

              والصندوق يسعى إلى تحقيق منفعة أو خدمة معينة حسب نوعه، لذا فإن الأسهم الموقوفة في هذا الصندوق أو ذاك ستحقق منفعة ما حسب طبيعة الصندوق المنشأ، وبالتالي يتحقق شرطا المال المتقوم. [ ص: 153 ] الشرط الثاني وهو أن يكون معلوما، وقد تبين أيضا من خلال الفصل الثاني أن السهم معلوم المقدار علما مجملا، يعطي المساهم صورة عن مقدار أسهمه وما تمثله في الصندوق كجزء من ممتلكاته.

              أما أن أسـهم الصـندوق تكون ملكا للواقـف، فهذا أمر جـلي، إذ أن المساهم يمتلك حصته في الصندوق ملكا تاما لا نـزاع فيه.

              وقد أتفق الفقهاء، على خلاف من المالكية، على عدم جواز التأقيت في الوقف، والواضـح أن وقف أسـهم الصـندوق يمكن أن يكون ناجزا، إذ باستطاعة الواقف أن يحدد مقدار الأسهم التي يريد وقفها دون تعليق وإخراجها من ملكه في الحال.

              2- الموقوف عليه:

              لقد تبيـن أن المقصـود بالموقوف عليه: الجهة المستفيدة من الوقف، ولما كانت غاية الوقف القربة، فقد حدد لها العلماء شروطا تمثلت بالآتي:

              أ- أن تكون الجهة الموقوف عليها جهة بر:

              وقـد تبين مـما سبـق، ومن خلال استعراض صور الصناديق الوقفية المعاصرة، استهـدافها لتحقيق خدمات لجهات بر مختلفة، حسب نوع الصنـدوق، وأن المسـاهم في الصندوق الوقفي يحقق الحكمة التي شـرع من أجـلها الوقف، كونه صدقـة جاريـة، يرجـو فيها العبد طاعة الله سبحانه. [ ص: 154 ]

              ب- أن تكون الجهة الموقوفة غير منقطعة:

              لو حاولنا إسقاط هذا الشرط على واحد من الصناديق، التي تم استعراضها في المبحث السابق، وليكن مثلا الصندوق الوقفي لرعاية البيئة، لأمكن القول:

              لا خلاف بين الفقهـاء على صحة الوقف معلوم الابتداء والانتهاء، غير المنقطـع، ومن خـلال دراسـة حالـة البيئة، يتضح للقـاصي والداني استمرار الأخطار التي تتعرض لها البيئة من جراء زيادة حالات التلوث التي تجـابه المعمـورة، الأمر الذي يتطـلب توفير المال اللازم لمعالجة الاختلالات وسد العجز الناقص في توفير المصادر المالية اللازمة للحد من ظاهرة التلوث.

              ج - أن لا يوقف على نفسه:

              من المعلوم أن المنفعة المتحققة من الصناديق الوقفية لا تستهدف شخصا بعينه، وبالتالي فإن منفعتها ستكون على فئة مستهدفة من خلال نوع الصندوق دون شخص بعينه.

              د- أن يكون على جهة يصح ملكها وتملكها:

              وهذا أمر متحقـق في الصناديق الوقفيـة، فالأسهم المطروحة للاكتتاب توضح الجهة المراد تملكها، وبما أن الهدف من هذه الصناديق هو تحقيـق منفعة يبتغى فيهـا مرضاة الله، فإن الأسهم الموقوفة ستدخل ضمن ما أجازه الفقهاء. [ ص: 155 ]

              3- الواقف [1] :

              الواقف هو المتـبرع بالمال، ويحـق له أن يشترط في وقفـه ما شاء مما لا يخالف الشـرع، أو مما لا يخالف مصـلحة الوقف أو الموقوف عليهم، سواء كان الشرط متعلقا بالجهـة الموقوف عليها، وتخصيصها بمجال معـين، أو صفـة معينـة، أو ما يتعلق بالنـاظر والمشرف على تنفيذ الوقف.

              ويجب الالتزام بشرط الواقف، وعبر الفقهاء جميعا أن شرط الواقف كنص الشـارع، أي وجـوب الالتـزام به، والتقيد بتنفيذه، وعدم الخروج عليه [2] .

              وإذا شرط الواقف في وقفه أن يصرف المال في جهة معينة، فيجب الالتزام بشرطه، وحصر صرف الريع على هذه الجهة.

              ويدخل في شرط الواقف: تعيينه ناظرا، فإذا شرط الواقف النظر على وقفه أو لغيره، وجب العمل بشرطه [3] ، لما روي أن عمر، رضي الله عنه، [ ص: 156 ] كان يلي أمر صـدقته -أي وقفه- ثم جعله على حفصـة تليه ما عاشت، ثم يليه أولو الرأي من أهلها [4] .

              ويجوز مخالفة شرط الواقف استثناء في حالات، منها:

              1- إذا أصبح العمل بالشرط في غير مصلحة الوقف، كأن لا يوجد من يرغب بالوقف إلا على وجه مخالف لشرط الواقف، حتى لا يتعطل.

              2- إذا أصبح العمل بالشرط في غير مصلحة الموقوف عليهم، كاشتراط أن يبقوا بدون زواج مثلا.

              3- إذا أصبح العمل بالشرط يفوت غرضا للواقف، كاشتراطه الإمامة لشخص معين، ويظهر أنه ليس أهلا لإقامة الصلاة.

              4- إذا اقتضت ذلك مصلحة أرجح، كما إذا وقف أرضا للزراعة فتعذرت، وأمكن الانتفاع بها في البناء، فينبغي العمل بالمصلحة، إذ من المعلوم أن الواقف لا يقصد تعطيل وقفه وثوابه.

              ومن الواضح أن هـذه الشـروط لا يمكن تجسيـدها من كل المساهمين في الصندوق، مما يعطـل إدارة الصندوق فيما إذا أراد كل مساهم استخدام حقوقه، مما يتطلب توفر الولاية على الوقف، وهذا ما سيتم تناوله في المطلب اللاحق. [ ص: 157 ]

              4- الصيغة:

              ذهب الجمهور إلى أن الوقف لا يصح إلا بالقول، إلا أن الإمام أحمد، رحمه الله، رجح أن الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه. ومن المعلوم أن إقبال الواقف على شراء الأسهم وتملكها يمثل الصيغة الدالة على تحقق الوقف في الصناديق الوقفية.

              ثانيا: الولاية على الوقف وتخصيصه:

              1- الولاية على الوقف:

              إن إدارة الصندوق والقائمين عليه يتولون رعاية الوقف والولاية عليه ابتداء وانتهاء، لتنفيذ الأهداف التي وجد من أجلها.

              والولاية على الوقف حق مقرر شرعا على كل عين موقوفة، لتأمين حفظها أولا، ثم استثمارها وتشـغيلها واسـتخراج الريع والغلة منها ثانيا، ثم لصرف ثمارها على الجهات المحددة فيها ثالثا، ثم لحماية الوقف وللدفاع عنه والمطالبة بحقوقه رابعا.

              فكل موقوف لابد له من متول يدير شؤونه، ويحفظ أعيانه، ويستثمره على الوجه المشروع، ثم يصرف غلته إلى مستحقيه على مقتضى وثيقة الوقف، وحسب شروط الواقف [5] . [ ص: 158 ] ويسمى المتولي على الوقف ناظرا، أو قيما، أو متوليا.. والولاية على الوقف إما أن تكون أصلية للواقف نفسه باشتراطها لنفسه، وإما أن تكون للموقـوف عليهم، وإما أن تكـون للقـاضي، وإما أن تكون بالتوكيـل أو التفويض لآخر بولاية الوقف.. وأهم شرط في المتولي على الوقف الكفاية بالقوة والقدرة والخبرة في التصرف في واجباته [6] .

              وتقوم وزارات الأوقاف اليوم، أو الأمانات العامة للأوقاف بالولاية على الوقف بواسطة مؤسستها، وأقر العلماء ذلك جميعا، وساد ذلك في العالم العربي والإسلامي.. وإدارة صندوق الوقف هي إحدى المؤسسات الرسمية، أو الحكومية لتولي الولاية على الوقف بكافة أنواعها وجوانبها.

              والإدارة أو الولاية جماعية؛ نسبة للظروف المعاصرة ولتعدد الاختصاصات والمجالات اليوم، وهذا جائز شرعا، ويعرف بتعدد نظار الوقف، لضمان التعاون أولا، ثم التكامل ثانيا، ثم الرقابة على بعضهم ثالثا، ثم لتحمل المسؤولية وتوزيعها عليهم رابعا، وهذا ما جرى عليه العمل وتعارفه الناس في مختلف الإدارات والمؤسسات المعاصرة [7] . [ ص: 159 ]

              2- تخصيص الوقف:

              إن الصناديق الوقفية، أو المصارف الوقفية، عبارة عن تخصيص للوقف في بعض الجوانب الخيرية، ليتم رعايتها أولا، والإنفاق عليها حصرا.

              وتخصيص الوقف بجانب معين أو جهة خيرية جائز باتفاق الفقهاء، ويتبع شرط الواقف عند الوقف.

              قال الكمال، ابن الهمام، رحمه الله تعالى، عن الواقف: «وله أن يخص صنـفا من الفقـراء دون صنـف» [8] ، وأكـد المالكية جواز تخصيص الوقف على شخص أو أشخاص أو فئة، سـواء في الوقف الـذري (الأهـلي) أو الوقف الخيري [9] ، وأكد ذلك الشافعية بالوقف على جهة بر، كالمساجد والفقراء، والأقارب، والمجاهدين، وكل سبيل لا ينقطع [10] ، وقال مثل ذلك الحنابلة.

              ولذلك يحتاج المسلمون اليوم إلى تنظيم فقهي لصور جديدة من الوقف حسب التخصصات والتغيرات التي حصلت في الممارسات والنشاطات المالية والاقتصادية للمجتمعات الإسلامية، بعد ابتكار مفهوم المؤسسة والصناديق، وابتكار أساليب جديدة في الإدارة والاستثمار لأموال الوقف ونشوء أهداف [ ص: 160 ] وقفية تفصيلية جديدة، مع وجوب تطوير فقه الوقف المعاصر، وحسب أغراض الواقف المتنوعة [11] .

              وتكتسب المستجـدات الوقفيـة أهمية خاصة من حيث إقناع المسلمين للقبول بها والإسهام فيها، ذلك أن كثيـرا من المسـلمين، الذين يؤيدون الوقف ويرغبون به يقتصرون على الجوانب الفقهية القديمة المعروفة، كالمساجد ورعاية الفقراء فقط، ويلتزمون غالبا الآراء الراجحة في المذاهب الفقهيـة، مع محـدودية الفهم لدور الوقف، ومنها عدم جواز وقف النقود، بالإضافة إلى المستجدات التي اجتهد بها علماء العصر، ومنها الصناديق الوقفيـة، التي لا يعرفهـا إلا القليل، ولا يقبل عليها إلا الأقل، ولا تزال معدومة في كثير من البلاد العربية والإسلامية، ويقف وراء ذلك كثير من علماء المذاهب الذين يحرصون على التعصب المذهبي، والالتزام بأقوال القدماء، أو بقول مذهب معين، ولو كان ضيقا ومشددا في مجال وقفي، كالاستثمار والاستبدال [12] .

              إن حل هذه المشكلة يتطلب بذل أقصى الجهد لإحياء سنة الوقف أولا، والدعوة إلى التطوير والاجتهاد، وإقامة الندوات والمؤتمرات والدعايات للوقف المعاصر، وللصناديق الوقفية، وأهميتها، والحاجة إليها، وبيان أهدافها، [ ص: 161 ] واتفاقها مع المبادئ العامة للوقف في ثبوت الأجر والثواب، وفي تحقيق غايات الوقف الشرعية، ونشر التجارب المطبقة عمليا في بعض البلاد الإسلامية، وعرض الآثار الطيبة والناجحة للصناديق الوقفية، وعقد دورات شرعية لشرح الصناديق الوقفية وأهميتها، في تغطية حاجات المسلمين العامة والخاصة، ومراعاة التطورات المعاصرة، وبيان التنظيم الجديد للوقف، وعمل حملة إعلامية واسعة لذلك، فالإعلام اليوم يمثل السلطة الرابعة، ويلعب دورا بارزا في الحياة [13] . [ ص: 162 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية