المسألة الثانية : ، ففي المسألة نظران ، أحدهما : في حقيقة المفارقة ، والقول فيها على ما سبق في افتراق المتبايعين عن المجلس ، والرجوع إلى العادة . فإن فارق الحالف قبل الاستيفاء مختارا ، حنث ، وإن كان ناسيا أو مكرها ، فعلى القولين في الناسي والمكره . ولو فارقه الغريم وفر منه ، فقيل قولان كالمكره ، والمذهب القطع بأنه لا يحنث سواء تمكن من التعلق به ومنعه أو من متابعته أم لا ، بل لو كانت مفارقته بإذن الحالف ، لم يحنث ، لأنه حلف على فعل نفسه ، فلا يحنث بفعل الغريم . وقال حلف : لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه : يحنث إن أذن له . وقال ابن كج الصيدلاني : يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل . وقال القاضي حسين : يحنث إن أمكنه متابعته ، لأنه بالمقام مفارق ، والصحيح الأول : ولو كانا يتماشيان ، فمشى الغريم ، ووقف الحالف ، فذكر أنه لا يحنث ، لأن الفارقة حصلت بحركة الغريم ، لا بسكون الحالف ، والصحيح الذي أجاب به الغزالي القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي أنه إذا مضى أحدهما في مشيه ووقف الآخر ، حنث الحالف ، لأنه إن وقف الغريم ، فقد فارقه الحالف بمشيه ، وإن وقف الحالف فقد فارقه بالوقوف لأن الحادث هو الوقوف ، فنسب المفارقة إليه بخلاف ما إذا كانا ساكنين ، فابتدأ الغريم بالمشي ، لأن الحادث هناك المشي ، وحيث قلنا : لا حنث بمفارقة الغريم . فلو فارق الحالف مكانه بعد ذلك ، لم يحنث . أما إذا قال : لا تفارقني حتى أستوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي ، فاليمين منعقدة على فعل الغريم . فإن فارقه الغريم مختارا ، حنث الحالف ، سواء كانت مفارقته بإذنه أم دون إذنه . وقيل : إن فر منه ، ففي حنثه القولان في [ ص: 75 ] المكره ، والمذهب الأول ، لأن اليمين على فعله ، وهو مختار في الفرار . فإن فارقه ناسيا أو مكرها ، خرج الحنث على القولين . ونقل البغوي طريقا قاطعا بالحنث ، وأن الاختيار إنما يعتبر في فعل الحالف ، والمذهب الأول . ولو فر الحالف من الغريم ، لم يحنث ، ويجيء وجه أنه إن أمكن الغريم متابعته فلم يفعل ، حنث . ولو قال : لا افترقت أنا وأنت حتى أستوفي ، أو لا تفترق لا أنا ولا أنت حتى أستوفي فاليمين على فعل كل منهما ، فأيهما فارق الآخر مختارا ، حنث الحالف . فإن فارق ناسيا أو مكرها ، ففيه الخلاف . ولو قال : لا افترقنا حتى أستوفي ، أو لا نفترق ، فوجهان : أحدهما : لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما الآخر . وأصحهما : يحنث بمفارقة أحدهما الآخر ، لأنه يقال : افترقا .
فرع
النظر الثاني في استيفاء الحق ، فإذا ، حنث ، لأنه فوت البر باختياره ، وهل يحكم بالحنث بنفس الإبراء ، أم بعد المفارقة ؟ يجيء فيه الخلاف السابق في نظائره . ولو أفلس الغريم ، فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه ، ففيه قولا حنث المكره . وإن فارقه باختياره ، حنث . وإن كان تركه واجبا كما لو قال : لا أصلي الفرض ، حنث . ولو أحاله الغريم على رجل ، أو أحال هو على الغريم غريما له عليه دين ، ثم فارقه ، فطريقان : أحدهما : البناء على أن الحوالة استيفاء أم اعتياض ؟ إن قلنا : استيفاء ، لم يحنث ، والمذهب القطع بالحنث بكل حال ، لأنه ليس استيفاء حقيقة وحيث جعلناها استيفاء ، فمعناه أنها كالاستيفاء في [ ص: 76 ] الحكم ، لكن لو نوى أنه لا يفارقه وعليه حق ، لم يحنث . ولو أخذ عوضا عن حقه ، وفارقه ، حنث إلا أن ينوي ما ذكرنا ، وسواء كانت قيمة العوض مثل حقه ، أو أقل أو أكثر ، لأنه لم يستوف حقه ، وإنما استوفى بدله . وإن استوفى حقه من وكيل الغريم ، أو من أجنبي تبرع به ، وفارقه ، حنث إن كان قال : حتى أستوفي حقي منك ، ولا يحنث إن اقتصر على قوله : حتى أستوفي حقي . ولو استوفى ثم فارقه ، ثم وجد ما استوفاه ناقصا ، لم يحنث إن كان من جنس حقه ، فإن لم يكن من جنسه ، بأن كان حقه الدراهم ، فخرج المأخوذ نحاسا أو مغشوشا ، فإن كان عالما بالحال ، حنث ، وإلا ، فعلى قولي الناسي والجاهل . قال : لا أفارقك حتى أستوفي حقي منك ، ثم أبرأه وفارقه
فرع
حلف الغريم : ليقضين حقه قبل أن يفارقه ، أو لا يفارقه حتى يقضي حقه ، فالقول في مفارقته مختارا أو مكرها وفي الحوالة والمصالحة وغيرها على قياس ما سبق . ولو حلف : لا يعطيه حقه ، فأعطاه مكرها أو ناسيا ، فهو على الخلاف . ولو قال : لا يأخذ ولا يستوفي ، فأخذ ، حنث ، سواء كان المعطي مكرها أو مختارا . فلو كان الأخذ مكرها ، ففيه الخلاف .