فأما الثاني ( فاستكمل النبي ) سيد العالمين طرا ، وسند المؤمنين ذخرا صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ، ( و ) كذا خليفته وصاحبه ( و ( كذا ) ابن عمه وزوج ابنته ( الصديق ) أبو بكر ، علي ) هو ابن أبي طالب و ( كذا الفاروق ) هو أمير المؤمنين المسمى قديما بذلك من عمر بن الخطاب - ; لكونه كما في مرفوع مرسل عند النبي - صلى الله عليه وسلم ابن سعد : [ ص: 313 ] ( فرق الله به بين الحق والباطل ) ، والمتأخر هنا في الذكر عن الذي قبله للضرورة ، ( ثلاثة الأعوام والستينا ) أي : ثلاثة وستين سنة مع اختلاف بين الأئمة في ذلك بالنظر إلى كل منهم ، لكن القول به في النبي صلى الله عليه وسلم جاء عن أنس وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم ، كما في الصحيحين ، وعن عائشة رضي الله عنهما مع مجيء خلافه أيضا عنهم إلا وجرير البجلي معاوية فلم يجئ عنه سواه ، وبه جزم سعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد ، وكذا قال به القاسم وأبو إسحاق السبيعي وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين وابن إسحاق وآخرون ، وصححه والبخاري والجمهور ، وقال ابن عبد البر أحمد وابن سعد : هو الثبت عندنا . بل حكى فيه الحاكم الإجماع ، وكذا قال النووي ، اتفق العلماء على أنه أصح الأقوال ، وتألوا الباقي عليه ، وقيل : ستون كما ثبت في ( صحيح مسلم ) عن أنس ، وروي عن صلى الله عليه وسلم وهو قول فاطمة ابنة النبي عروة بن الزبير ومالك ، وأورده الحاكم في ( الإكليل ) ، وصححه في تاريخه ، وهو مخرج على أن العرب قد تلغي الكسور وتقتصر على الأعداد الصحيحة ، وقيل : خمس وستون . روي عن ابن حبان ابن عباس وأنس أيضا ، ودغفل بن حنظلة ، وقيل : اثنتان وستون . قاله قتادة كما رواه عنه ، ونحوه ما في تاريخ ابن أبي خيثمة بسنده إلى ابن عساكر أنس ، قال : اثنتان وستون ونصف ، وفي كتاب : إحدى أو اثنتان ، لا أراه بلغ ثلاثا وستين ، وهو شاذ ، والذي قبله إنما يصح على القول بأنه ولد في رمضان ، وهو شاذ أيضا ، ثم إن الروايات اختلفت في ابن شبة بمكة بعد البعثة فالذي ذهب إليه مقدار إقامته أنه ثلاث عشرة سنة ، وهو محمول على أنه عد من وقت مجيء الملك إليه بالنبوة ، وقال غيره : إنه عشر فقط ، وهو محمول على أنه عد من بعد فترة الوحي ومجيء الملكبـ ( ابن عباس ياأيها المدثر ) .
[ ص: 314 ] والقول به في الصديق صح أيضا عن أنس ومعاوية ، ورواه في الخلفاء ، له من جهة ابن أبي الدنيا عروة عن عائشة ، وهو قول الأكثرين ، وبه جزم ابن قانع والمزي والذهبي ، وقال مبالغا في أصحيته قولا واحدا ، وقيل : خمس وستون قاله قتادة ، وحكاه وهو شاذ ، وقيل : اثنتان وستون وثلاثة أشهر ، واثنان وعشرون يوما . قاله ابن الجوزي في الثقات . ابن حبان
والقول به في صح عن الفاروق أنس ومعاوية ، وهو قول الجمهور وبه جزم وصححه من المتأخرين ابن إسحاق المزي ، واستدل له المصنف بكونه ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة ، يعني فإن مولده صلى الله عليه وسلم كان فيه ، وهو تأخر عن المدة التي سبقه بها ، وقيل : أربع وخمسون . قاله بعضهم ، وقيل : خمس وخمسون . رواه في تاريخه عن البخاري ، وبه جزم ابن عمر في الخلفاء له ، وقيل : ست وخمسون أو سبع وخمسون أو تسع وخمسون ، رويت هذه الأقوال الثلاثة عن ابن حبان ، وقيل : ستون . وبه جزم نافع مولى ابن عمر في ( الوفيات ) ، وقيل : إحدى وستون . قاله ابن قانع قتادة ، وقيل : خمس وستون . قاله ابنه عبد الله فيما حكاه والزهري عنهما ، وقيل : ست وستون . قاله ابن الجوزي ، وتوقف شيخنا في تصحيح الأول ، فقال : وفيه نظر . فهو وإن ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس جرير عن معاوية أن عمر قتل وهو ابن ثلاث وستين فقد عارضه ما هو أظهر منه ، فرأيت في أخبار البصرة لعمر بن شبة : ثنا أبو عاصم ، ثنا [ ص: 315 ] سمعت حنظلة بن أبي سفيان ، يحدث عن سالم بن عبد الله سمعت ابن عمر ، عمر يقول قبل أن يموت بعام : أنا ابن سبع وخمسين ، أو ثمان وخمسين ، وإنما أتاني الشيب من قبل أخوالي بني المغيرة . قال : فعلى هذا يكون يوم مات ابن ثمان وخمسين أو تسع وخمسين وهذا الإسناد على شرط الصحيح ، وهو يرجح على الأول بأنه عن عمر نفسه ، وهو أخبر بنفسه من غيره ، وبأنه عن آل بيته ، وآل الرجل أتقن لأمره من غيرهم .
والقول به في علي مروي عن ولده محمد بن الحنفية ، وهو قول وابن عمر ابن إسحاق وأبي بكر بن عياش وآخرين ، وصححه وأبي نعيم الفضل بن دكين ، وهو أحد الأقوال المروية عن ابن عبد البر ، وبه صدر أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين كلامه ، وقال ابن الصلاح محمد بن عمر بن علي : إنه توفي لثلاث أو أربع وستين . وقيل : سبع وخمسون . قاله الهيثم ، وبه صدر وأبو بكر بن البرقي كلامه ، وقدمه ابن قانع ابن الجوزي والمزي حين حكاية الأقوال ، وقيل : ثمان وخمسون . وهو المذكور في تاريخ عن البخاري أبي جعفر الماضي ، وقيل : اثنان وستون ، وبه جزم في الخلفاء له ، وقيل : أربع وستون أو خمس وستون ، رويا عن ابن حبان أبي جعفر أيضا .
( و ) أما الوفيات واقتصر منها على الوفاة النبوية والعشرة المشهود لهم بالجنة والفقهاء الخمسة ، ثم الأربعة المشهورين والحفاظ الخمسة أصحاب أصول [ ص: 316 ] الإسلام وسبعة حفاظ بعدهم انتفع بتصانيفهم الحسنة من زمنهم ، وهلم جرا ، وأردف العشرة بجماعة من الصحابة معمرين ( ففي ) شهر ( ربيع ) هو الأول ( قد قضى ) أي : مات النبي صلى الله عليه وسلم ( يقينا ) أي : بلا خلاف ; فإنه كاد أن يكون إجماعا ، لكن في حديث الثوري ، عند لابن مسعود البزار أنه كان في حادي عشر شهر رمضان ـ انتهى .
وذلك ( سنة إحدى عشرة ) بسكون المعجمة على أحد لغاتها من الهجرة ، وكذا لا خلاف في كونه دفن في بيت عائشة ، وأنه كان في يوم الاثنين ، وممن صرح باليوم من الصحابة عائشة وابن عباس وأنس ، ومن التابعين أبو سلمة بن عبد الرحمن والزهري في آخرين ، والخلاف إنما هو في ضبطه من الشهر بعدد معين ، فجزم وجعفر الصادق ابن إسحاق وابن سعد وسعيد بن عفير وابن حبان بأنه كان لاثنتي عشرة ليلة خلت منه ، وبه جزم من المتأخرين وابن عبد البر ابن الصلاح والنووي في ( شرح مسلم ) و ( الروضة ) وغيرهما من تصانيفه ، والذهبي في ( العبر ) ، وصححه ، وبه صدر ابن الجوزي المزي كلامه ، وعند موسى بن عقبة وابن شهاب والليث والخوارزمي أنه في مستهله ، وبه جزم ابن زبر في ( الوفيات ) ، وعن سليمان التيمي ومحمد بن قيس كما سيأتي عنهما أنه لليلتين خلتا منه ، بل يروى ذلك عن كما أخرجه ابن عمر الخطيب في الرواة عن مالك من رواية سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي : ثنا مالك ، عن نافع ، عن قال : ( لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم مرض ثمانية فتوفي لليلتين خلتا من ربيع ، ونحوه ما نقله ابن عمر عن الطبري ابن الكلبي أنه في ثانيه ، وعلى القولين يتنزل ما نقله وأبي مخنف الرافعي أنه عاش بعد حجته ثمانين يوما ، وقيل : واحدا وثمانين يوما . وأما على جزم ما به في ( الروضة ) ، وعليه الجمهور فيكون عاش بعد حجته تسعين يوما أو أحدا أو تسعين .
وقد استشكل السهيلي ومن تبعه ما ذهب إليه الجمهور من أجل أنهم اتفقوا على أن ذا الحجة كان أوله يوم الخميس ؟ ؟ ، فمهما فرضت الشهور الثلاثة توام أو نواقص أو بعضها لم [ ص: 317 ] يصح ، وهو ظاهر لمن تأمله ، وأجاب الشرف ابن البارزي ثم ابن كثير باحتمال وقوع الأشهر الثلاثة كوامل ، وكان أهل مكة والمدينة اختلفوا في رؤية هلال ذي الحجة ، فرآه أهل مكة ليلة الخميس ، ولم يره أهل المدينة إلا ليلة الجمعة فحصلت الوقفة برؤية أهل مكة ، ثم رجعوا إلى المدينة فأرخوا برؤية أهلها ، فكان أول ذي الحجة الجمعة وآخره السبت ، وأول المحرم الأحد وآخره الاثنين ، وأول صفر الثلاثاء ، وآخره الأربعاء ، وأول ربيع الأول الخميس ، فيكون ثاني عشرة الاثنين ، وأجاب البدر بن جماعة بجواب آخر فقال : يحمل قول الجمهور لاثنتي عشرة ليلة خلت أي : بأيامها فيكون موته في اليوم الثالث عشر ، وتفرض الشهور كوامل فيصح قول الجمهور .
واستبعدهما شيخنا لمخالفة الثاني اصطلاح أهل اللسان في قولهم لاثنتي عشرة ، فإنهم لا يفهمون منها إلا مضي الليالي ، ويكون ما أرخ بذلك واقعا في اليوم الثاني عشر ، ولاستلزامهما معا توالي أربعة أشهر كوامل مع جزم أحد الثقات ، كما رواه سليمان التيمي البيهقي في ( الدلائل ) بسند صحيح : بأن ابتداء مرض النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم السبت الثاني والعشرين من صفر ، ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع ، وذلك يقتضي أن صفر كان ناقصا ، وأن أوله كان يوم السبت ، ونحوه في تضمن كون أوله السبت ما في ( المغازي ) لأبي معشر ، عن محمد بن قيس أنه قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإحدى عشرة بقيت من صفر إلى أن قال : إنه اشتكى ثلاثة عشر يوما ، وتوفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، ولا يمكن أن يكون أوله السبت إلا أن كان ذو الحجة ، والمحرم ناقصين ، وذلك يستلزم نقص ثلاثة أشهر متوالية ، قال : والمعتمد ما قاله ومن وافقه مما رجحه أبو مخنف السهيلي أنه في ثاني شهر ربيع الأول ، وكان لفظ شهر غير من أول قائل بعشر ، فصار ثاني عشر ، واستمر الوهم بذلك ; لاقتفاء المتأخر المتقدم بدون تأمل .
[ ص: 318 ] قلت : وهو وإن سبقه شيخه المصنف إلى الميل إليه وظن الغلط ، لكن من جهة أخرى فإنه قال : وعندي أن من قال : ثاني عشر . غلط من المولد إلى الوفاة ، وإلا فهو متعذر من حيث التاريخ إلا على المحمل الماضي له مع خدشه ، مستلزم لتوالي الأشهر الثلاثة في النقص ، وكلامه أولا مشعر بالتوقف في ذلك ، وأما ما رواه ابن سعد من طريق قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر ، فاشتكى ثلاث عشرة ليلة ، ومات يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول . فمشكل ; لاستلزامه أن يكون أول صفر الأربعاء ، وذلك غير مطابق لكون أول ذي الحجة الخميس ، مهما فرضت الأشهر الثلاثة ، وكذا قول عمر بن علي بن أبي طالب ابن حبان : ثم بدأ به مرضه الذي مات منه يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر . يقتضي أن أول صفر الخميس ، وهو غير مطابق أيضا . وابن عبد البر