الأول : أن تمنى بمعنى : قرأ وتلا ومنه قول حسان في - رضي الله عنه - : عثمان بن عفان
تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر
وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل
فمعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا .
وفي صحيح ، عن البخاري أنه قال : ابن عباس إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، وكون تمنى بمعنى : قرأ وتلا ، هو قول أكثر المفسرين .
القول الثاني : أن تمنى في الآية من التمني المعروف ، وهو تمنيه إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله ، ومفعول ألقى محذوف فعلى أن تمنى بمعنى : أحب إيمان أمته [ ص: 285 ] وعلق أمله بذلك ، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس ، والصد عن دين الله حتى لا يتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الرسول ما تمنى .
ومعنى كون الإلقاء في أمنيته على هذا الوجه : أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصد بها عما تمناه الرسول أو النبي ، فصار الإلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك .
وعلى أن تمنى بمعنى : قرأ ، ففي مفعول ألقى تقديران :
أحدهما : من جنس الأول أي : ألقى الشيطان في قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو النبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه ، ويتلوه الرسول أو النبي ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال .
وأما التقدير الثاني : فهو ألقى الشيطان في أمنيته أي قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها .
وقوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لهذا التقدير .
وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا : سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون . وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .
وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، ومثلنا لذلك : بأمثلة متعددة ، وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين : وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ، يعنون : اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات " النجم " التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى ، في اللات [ ص: 286 ] والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] وليس من المعقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرا عن ذكره لها بخير المزعوم ، إلا وغضبوا ، ولم يسجدوا ; لأن العبرة بالكلام الأخير ، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول ، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإخوانه من الرسل ، وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى :
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقوله تعالى وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة الآية [ 34 \ 21 ] وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] ، وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الكفر البواح ، فأي سلطان له أكبر من ذلك .
ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] وقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [ 26 \ 221 - 222 ] ، وقوله في القرآن العظيم : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 41 - 42 ] فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم .