الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    44 - ( فصل )

                    وقد استثني من عدم التحليف في الحدود صورتان : إحداهما : إذا قذفه فطلب حد القذف ، فقال القاذف : حلفوه أنه لم يزن .

                    فذكر أصحاب الشافعي فيه وجهين ، قال في " الروضة " : والأصح أنه يحلف .

                    والصورة الثانية : أن يكون المقذوف ميتا ، وأراد القاذف تحليف الوارث : أنه لا يعلم زنا مورثه ، فله ذلك .

                    وحكى عن نص الشافعي رحمه الله . والصحيح قول الجمهور : أنه لا يحلف ، بل القول بتحليفه في غاية السقوط ، فإن الحد يجب بقذف المستور الذي لم يظهر زناه ، وليس من شرطه ألا يكون قد زنى في نفس الأمر ، ولهذا لا يسأله الحاكم عن ذلك : ولا يجوز له سؤاله ، ولا يجب عليه الجواب . وفي تحليفه تعريضه للكذب واليمين الغموس إن كان قد ارتكب ذلك ، أو تعرضه لفضيحة نفسه وإقراره بما يوجب عليه الجلد ، أو فضيحته بالنكول الجاري مجرى الإقرار ، وانتهاك عرضه للقاذفين الممزقين لأعراض المسلمين .

                    والشريعة لا تأتي [ ص: 98 ] بشيء من ذلك ، ولذلك لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة بتحليف المقذوف أنه لم يزن ، ولم يجعلوا ذلك شرطا في إقامة الحد .

                    فالقول بالتحليف في غاية البطلان ، وهو مستلزم لما ذكرنا من المحاذير ، ولا سيما إن كان قد فعل شيئا من ذلك ثم تاب منه ، ففي إلزامه بالحلف تعريضه لهتيكة نفسه ، وإهدار عرضه .

                    ولهذا كان الصواب قول أبي حنيفة : إن البكر إذا زالت بكارتها بالزنا فإذنها الصمات ، لأنا لو اشترطنا نطقها لكنا قد ألزمناها بفضيحة نفسها وهتك عرضها ، بل إذا اكتفى من البكر بالصمات لحيائها فلأن يكتفى من هذه بالصمات بطريق الأولى ، لأن حياءها من الاطلاع على زناها أعظم بكثير من حيائها من كلمة " نعم " التي لا تذم بها ولا تعاب ، ولا سيما إذا كانت قد أكرهت على الزنا ، بل الاكتفاء من هذه بالصمات أولى من الاكتفاء به من البكر ; فهذا من محاسن الشريعة وكمالها .

                    وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { إذن البكر الصمات ، وإذن الثيب الكلام } المراد به : الثيب التي قد علم أهلها والناس أنها ثيب ، فلا تستحيي من ذلك .

                    ولهذا لو زالت بكارتها بإصبع أو وثبة : لم تدخل في لفظ الحديث ، ولم تتغير بذلك صفة إذنها ، مع كونها ثيبا ، فالذي أخرج هذه الصورة من العموم أولى أن يخرج الأخرى ، والله أعلم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية