33 - ( فصل )
في التهم القسم الثاني من الدعاوى ، : وهي دعوى الجناية والأفعال المحرمة كدعوى القتل ، وقطع الطريق ، والسرقة ، والقذف ، والعدوان . دعاوى التهم
فهذا ينقسم المدعى عليه فيه إلى ثلاثة أقسام ، فإن المتهم إما أن يكون بريئا ليس من أهل تلك التهمة ، أو فاجرا من أهلها ، أو مجهول الحال لا يعرف الوالي والحاكم .
فإن كان بريئا لم تجز عقوبته اتفاقا ، واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين أصحهما : أنه يعاقب صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء .
قال مالك رحمهما الله : لا أدب على المدعي إلا أن يقصد أذية المدعى عليه وعيبه وشتمه ، فيؤدب . وأشهب
وقال : يؤدب ، قصد أذيته أو لم يقصد ، وهل يحلف في هذه الصورة ؟ فإن كان [ ص: 89 ] المدعى حدا لله لم يحلف عليه ، وإن كان حقا لآدمي ففيه قولان ، مبنيان على سماع الدعوى ، فإن سمع الدعوى حلف له ، وإلا لم يحلف . أصبغ
والصحيح : أنه لا تسمع الدعوى في هذه الصورة ، ولا يحلف المتهم لئلا يتطرق الأراذل والأشرار إلى الاستهانة بأولي الفضل والأخطار ، كما تقدم من أن المسلمين يرون ذلك قبيحا .
34 - ( فصل )
القسم الثاني : أن يكون المتهم مجهول الحال ، لا يعرف ببر ولا فجور ، فهذا يحبس حتى ينكشف حاله عند عامة علماء الإسلام ، والمنصوص عليه عند أكثر الأئمة : أنه يحبسه القاضي والوالي ، هكذا نص عليه وأصحابه ، وهو منصوص الإمام مالك ومحققي أصحابه ، وذكره أصحاب أحمد . أبي حنيفة
وقال الإمام : قد حبس النبي صلى الله عليه وسلم في تهمة ، قال أحمد : وذلك حتى يتبين للحاكم أمره ، وقد روى أحمد أبو داود في سننه " وغيرهما من حديث وأحمد ، عن أبيه ، عن جده : { بهز بن حكيم } أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة
وفي " جامع " عن الخلال رضي الله عنه : { أبي هريرة } . أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة
والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك ، فإنهم متفقون على أن المدعي إذا طلب المدعى عليه ، الذي يسوغ إحضاره : وجب على الحاكم إحضاره إلى مجلس الحكم ، حتى يفصل بينهما ، ويحضره من مسافة العدوى - التي هي عند بعضهم بريد - وهو ما لا يمكن الذهاب إليه والعود في يومه ، كما يقوله بعض أصحاب الشافعي ، وهو رواية عن وأحمد ، وعن بعضهم يحضره من مسافة القصر ، وهي مسيرة يومين ، كما هي الرواية الأخرى عن أحمد . أحمد
ثم إن الحاكم قد يكون مشغولا عن تعجيل الفصل ، وقد تكون عنده حكومات سابقة ، فيكون المطلوب محبوسا معوقا من حين يطلب إلى أن يفصل بينه وبين خصمه ، وهذا حبس بدون التهمة ، ففي التهمة أولى ، فإن الحبس الشرعي ليس هو السجن في مكان ضيق ، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد ، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيله عليه ، وملازمته له ، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم " أسيرا " كما روى أبو داود ، عن وابن ماجه الهرماس بن حبيب عن أبيه [ ص: 90 ] عن جده ، قال : { بني تميم ، ما تريد أن تفعل بأسيرك ؟ } أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي ، فقال : الزمه ، ثم قال لي : يا أخا
وفي رواية { ابن ماجه بني تميم ؟ } وكان هذا هو ثم مر بي آخر النهار ، فقال : ما فعل أسيرك يا أخا وأبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم يكن له محبس معد لحبس الخصوم ولكن لما انتشرت الرعية في زمن الحبس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عمر بن الخطاب بمكة دارا وجعلها سجنا يحبس فيها ، ولهذا تنازع العلماء من أصحاب وغيرهم : أحمد ؟ على قولين : فمن قال : لا يتخذ حبسا ، قال : لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته بعده حبس ، ولكن يعوقه بمكان من الأمكنة ، أو يقام عليه حافظ - وهو الذي يسمى الترسيم أو يأمر غريمه بملازمته كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . هل يتخذ الإمام حبسا
ومن قال : له أن يتخذ حبسا ، قال : قد اشترى من عمر بن الخطاب دارا بأربعة آلاف ، وجعلها حبسا . صفوان بن أمية
ولما كان حضور مجلس الحاكم من جنس الحبس تنازع العلماء : ، على قولين ، هما روايتان عن هل يحضر الخصم المطلوب بمجرد الدعوى أو لا يحضر حتى يبين المدعي أن للدعوى أصلا ، والأول : قول أحمد أبي حنيفة ، والثاني : قول والشافعي . مالك
35 - ( فصل )
ومنهم من قال : إنما هو لوالي الحرب ، دون القاضي ، وقد ذكر هذا طائفة من أصحاب الحبس في التهم الشافعي كأبي عبد الله الزبيري ، والماوردي وغيرهما وطائفة من أصحاب المصنفين في أدب القضاة وغيرهم ، واختلفوا في أحمد ، هل هو مقدر ؟ أو مرجعه إلى اجتهاد الوالي والحاكم - على قولين : ذكرهما مقدار الحبس في التهمة الماوردي وأبو يعلى وغيرهما - فقال الزبيري : هو مقدر بشهر ، وقال الماوردي : غير مقدر .
36 - ( فصل )
القسم الثالث : أن يكون المتهم معروفا بالفجور ، كالسرقة وقطع الطريق والقتل ونحو ذلك ، فإذا [ ص: 91 ] جاز حبس المجهول فحبس هذا أولى .
قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله : وما علمت أحدا من أئمة المسلمين يقول : إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوى يحلف ، ويرسل بلا حبس ولا غيره فليس هذا - على إطلاقه - مذهبا لأحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم من الأئمة ، ومن زعم أن هذا - على إطلاقه وعمومه - هو الشرع : فقد غلط غلطا فاحشا مخالفا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة .
وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع ، وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم ومصلحة الأمة ، وتعدوا حدود الله ، وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج عنه إلى أنواع من الظلم والبدع والسياسة ، جعلها هؤلاء من الشرع ، وجعلها هؤلاء قسيمة ومقابلة له ، وزعموا أن الشرع ناقص لا يقوم بمصالح الناس ، وجعل أولئك ما فهموه من العموميات والإطلاقات هو الشرع ، وإن تضمن خلاف ما شهدت به الشواهد والعلامات الصحيحة .
والطائفتان مخطئتان في الشرع أقبح خطأ وأفحشه ، وإنما أتوا من تقصيرهم في معرفة الشرع الذي أنزل الله على رسوله ، وشرعه بين عباده ، كما تقدم بيانه ، فإنه أنزل الكتاب بالحق ليقوم الناس بالقسط ، ولم يسوغ تكذيب صادق ولا إبطال أمارة وعلامة شاهدة بالحق ، بل أمر بالتثبت في خبر الفاسق ، ولم يأمر برده مطلقا ، حتى تقوم أمارة على صدقه فيقبل ، أو كذبه فيرد ، فحكمه دائر مع الحق ، والحق دائر مع حكمه أين كان ، ومع من كان ، وبأي دليل صحيح كان ، فتوسع كثير من هؤلاء في أمور ظنوها علامات وأمارات أثبتوا بها أحكاما ، وقصر كثير من أولئك عن أدلة وعلامات ظاهرة ظنوها غير صالحة لإثبات الأحكام .
37 - ( فصل )
ويسوغ ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ضرب هذا النوع من المتهمين بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به ، في قصة الزبير ابن أبي الحقيق .
قال شيخنا : واختلفوا فيه : هل الذي يضربه الوالي دون القاضي ، أو كلاهما أو لا يسوغ ضربه ؟ على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه يضربه الوالي والقاضي . وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وغيرهم ، منهم وأحمد قاضي أشهب بن عبد العزيز مصر ، فإنه قال : يمتحن بالحبس والضرب ، ويضرب بالسوط مجردا .
والقول الثاني : أنه يضربه الوالي دون القاضي . وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ، حكاه القاضيان . [ ص: 92 ] ووجه هذا : أن الضرب المشروع هو ضرب الحدود والتعزيرات ، وذلك إنما يكون بعد ثبوت أسبابها وتحققها . وأحمد
والقول الثالث : أنه يحبس ولا يضرب ، وهذا قول وكثير من الطوائف الثلاثة ، بل قول أكثرهم ، لكن حبس المتهم عندهم أبلغ من حبس المجهول . أصبغ
ثم قالت طائفة ، منهم ، عمر بن عبد العزيز ، ومطرف وابن الماجشون : إنه يحبس حتى يموت .
ونص عليه الإمام في أحمد ، وقال المبتدع الذي لم ينته عن بدعته : أنه يحبس حتى يموت : لا يحبس إلى الموت . مالك
38 - ( فصل )
والذين جعلوا عقوبته للوالي ، دون القاضي ، قالوا : ولاية أمير الحرب معتمدها المنع من الفساد في الأرض ، وقمع أهل الشر والعدوان .
وذلك لا يتم إلا بالعقوبة للمتهمين المعروفين بالإجرام ، بخلاف ولاية الحكم ، فإن مقصودها إيصال الحقوق إلى أربابها وإثباتها .
قال شيخنا : وهذا القول هو في الحقيقة قول بجواز ذلك في الشريعة ، لكن كل ولي أمر يفعل ما فوض إليه ، فكما أن والي الصدقات يملك من أمر القبض والصرف ما لا يملكه والي الخراج وعكسه ، كذلك والي الحرب ووالي الحكم يفعل كل منهما ما اقتضته ولايته الشرعية ، مع رعاية العدل والتقيد بالشريعة .
39 - ( فصل )
وأما عقوبة من عرف أن الحق عنده ، وقد جحده ، فمتفق عليها بين العلماء ، لا نزاع بينهم أن ، أنه يعاقب حتى يؤديه ، ونصوا على عقوبته بالضرب ، ذكر ذلك الفقهاء من الطوائف الأربعة . من وجب عليه حق من عين أو دين - وهو قادر على أدائه - وامتنع منه
وقال أصحاب : إذا أحمد ، أمر أن يختار إحدى الأختين ، أو أربعا ، فإن أبى ; حبس ، وضرب حتى يختار ، قالوا : وهكذا كل من وجب عليه حق هو قادر على أدائه فامتنع منه ; فإنه يضرب حتى يؤديه . أسلم وتحته أختان ، أو أكثر من أربع
وفي " السنن " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } ، والعقوبة لا [ ص: 93 ] تختص بالحبس ، بل هي في الضرب أظهر منها في الحبس ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { مطل الواجد يحل عرضه وعقوبته } والظالم يستحق العقوبة شرعا . مطل الغني ظلم