فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى
المعنى: فجمع السحرة ووعدهم وأمرهم بالإعداد لموسى ، فهذا هو كيده، ثم أتى فرعون بجمعه وأهل دولته، والسحرة معه، وكانت عصابة لم يخلق الله تعالى أسحر منها، وجاء أيضا موسى عليه السلام ببني إسرائيل معه، فقال موسى عليه السلام للسحرة: "ويلكم"، وهذه مخاطبة محذر، ندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه، وألا يباهتوا بكذب.
وقرأ رضي الله عنهما، عبد الله بن عباس ، ونافع ، وعاصم ، وأبو عمرو : "فيسحتكم" بفتح الياء، وقرأ وابن عامر ، حمزة ، والكسائي وحفص عن : "فيسحتكم" بضم الياء، وهما لغتان بمعنى واحد، يقال: سحت وأسحت بمعنى: أهلك وأذهب، ومنه قول عاصم : الفرزدق
[ ص: 105 ]
عض زمان يا بن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف
فلما سمع السحرة هذه المقالة هالهم هذا المنزع، ووقع في نفوسهم من مهابته رعب شديد، وتنازعوا أمرهم، و "التنازع" يقتضي اختلافا كان بينهم في السر، أي: قال بعضهم لبعض: هو محق، وقال بعضهم: هو مبطل، وقال بعضهم: إن كان من عند الله فسيغلبنا، ونحو هذا من الأقوال التي تعهد من الجموع الكثيرة في وقت الخوف كالحرب ونحو هذا، ومعلوم أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى عليه السلام ، وقالت فرقة: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا إن هذان لساحران .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والأظهر أن تلك قيلت علانية، ولو كان تناجيهم ذلك لم يكن ثم تنازع، و "النجوى": السر والمسارة، أي: كان كل رجل يناجي من يليه، ثم جعلوا ذلك سرا مخافة فرعون أن يتبين فيهم ضعفا; لأنهم حينئذ لم يكونوا مصممين على غلبة [ ص: 106 ] موسى عليه السلام ، بل كان ظنا من بعضهم.
قوله تعالى: إن هذان لساحران الآية. قرأ ، نافع ، وابن عامر ، وحمزة : "إن" مشددة النون "هذان" بألف ونون مخففة للتثنية، وقرأ والكسائي وحده: "إن هذين لساحران"، وقرأ أبو عمرو : "إن هذان لساحران" بتخفيف نون "إن" وتشديد نون "هذان لسحران"، وقرأ ابن كثير حفص عن : "إن" خفيفة "هذان" خفيفة أيضا "لساحران". وقرأت فرقة: "إن هذان إلا ساحران"، وقرأت فرقة: "إن ذان لساحران"، وقرأت فرقة: "ما هذان إلا ساحران"، وقرأت فرقة: "إن هذان" بتشديد النون من "هذان". عاصم
فأما القراءة الأولى، فقالت فرقة: "إن" بمعنى: نعم، كما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: إن الحمد لله برفع "الحمد"، وقال رضي الله عنه: "إن وراكبها" حين قال له الرجل: لعن الله ناقة حملتني إليك، ويدخل في هذا التأويل أن اللام لا تدخل في خبر الابتداء، وهو مما يجوز في الشعر، ومنه قول الشاعر: عبد الله بن الزبير
أم الحليس لعجوز شهربه ترضى من اللحم بعظم الرقبه
زود منها بين أذناه طعنة دعته إلى هابي التراب عقيم
أطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغا لناباه الشجاع لصمها
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وفي هذا التأويل دخول اللام في الخبر، وقال بعض النحاة: ألف "هذان" مشبهة هنا بألف تفعلان، وقال : لما كان "هذا" بحال واحدة في رفعه ونصبه وخفضه تركت تثنيته هنا كذلك. وقالت جماعة - منهم ابن كيسان رضي الله عنها - عائشة -: هذا مما لحن الكاتب فيه وأقيم بالصواب وهو تخفيف النون من "إن". وأبو عمرو
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذه الأقوال معترضة، إلا ما قيل من أنها لغة، و "إن" بمعنى: أجل ونعم، أو "إن" في الكلام ضمير.
وأما من قرأ: "إن" خفيفة، فهي عن المخففة من الثقيلة ويرتفع بعدها الاسم، ويقول سيبويه : هي بمعنى "ما" واللام بمعنى "إلا" ووجه سائر القراءات بين. الفراء
وعبر كثير من المفسرين عن "الطريقة" بـ "السادة"، وأنما يراد أهل العقل والسن والحجى، وحكي أن العرب تقول: "فلان طريقة قومه"، أي: سيدهم، والأظهر في الطريقة هنا أنها السيرة والمملكة والحال التي هي عليها، و "المثلى" تأنيث أمثل، أي: الفاضلة الحسنة.
وقرأ جمهور القراء: "فأجمعوا" بقطع الألف وكسر الميم، على معنى: أعزموا، وقرأ وحده: "فأجمعوا" من "جمع"، أي: ضموا سحركم بعضه إلى بعض، وقرأ أبو عمرو : "ثم" بفتح الميم "ايتوا" بسكون الياء، وقرأ أيضا في رواية ابن كثير شبل عنه: "ثم ايتوا" بكسرهما، قال : وهذا غلط، ولا وجه لكسر الميم من "ثم"، وقرأ الجمهور : "ثم ائتوا" بفتح الميم وهمزة بعد الألف. وقوله تعالى: أبو علي صفا حال، [ ص: 109 ] أي: مصطفين، وتداعوا إلى هذا لأنه أهيب وأظهر لهم. و "أفلح" معناه: ظفر ببغيته، و "استعلى": طلب العلو في أمره وسعى سعيه.