لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون مستكبرين به سامرا تهجرون أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين
المعنى: يقال لهم يوم العذاب عند حلوله: لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ، وهذا القول يجوز أن يكون حقيقة، أي: تقول ذلك لهم الملائكة، ويحتمل أن يكون مجازا، أي: لسان الحال يقول ذلك، وهذا على أن الذين يجأرون هم المعذبون، وأما على قول فلا يحتمل أن تقول ذلك الملائكة. ابن جريج
وقوله تعالى: قد كانت آياتي تتلى عليكم الآية يريد بها القرآن. و"تنكصون" معناه: ترجعون وراءكم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحق، وقرأ -رضي الله عنه-: "على أدباركم تنكصون" بضم الكاف وبذكر الأدبار بدلا من الأعقاب. و"مستكبرين" حال، والضمير في "به" قال الجمهور: هو عائد على علي بن أبي طالب الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر لشهرته في الأمر، والمعنى: أنكم تعتقدون في أنفسكم أن لكم بالمسجدوالحرم أعظم الحقوق على الناس والمنازل عند الله، فأنتم تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق. وقالت فرقة: الضمير في "به" عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات، والمعنى: يحدث لكم سماع الآيات كفرا وطغيانا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وهذا قول جيد.
وذكر أن الضمير منذر بن سعيد لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو متعلق بما بعده، كأن الكلام تم في قوله: "مستكبرين"، ثم قال لمحمد -صلى الله عليه وسلم: سامرا تهجرون .
[ ص: 309 ] وقوله: "سامرا" حال، وهو مفرد بمعنى الجمع، يقال: قوم سمر وسمر وسامر، ومعناه سهر الليل، مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، فكانت العرب تجلس للسمر تتحدث، وهذا أوجب معرفتها بالنجوم; لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من الغوارب. وقرأ الجمهور: "سامرا"، وقرأ : "سمارا"، وقرأ أبو رجاء رضي الله عنهما ابن عباس ، وعكرمة وابن محيصن : "سمرا"، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
من دونهم إن جئتهم سمرا عزف القيان ومجلس غمر
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ولا تكون هذه القراءة تكثير "تهجرون" بضم التاء وكسر الجيم لأن أفعل لا يتعدى ولا يكثر بتضعيف; إذ التضعيف والهمزة متعاقبان.
ثم وبخهم على إعراضهم بعد تدبر القول لأنهم -بعد التدبر والنظر الفاسد- قال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: سحر، وسائر ذلك.
وقوله تعالى: "أم جاءهم" كذلك توبيخ أيضا، والمعنى: أأبدع لهم أمرا لم يكن في الناس قبلهم؟ بل قد جاء الرسل قبل كنوح وإبراهيم وإسماعيل -عليهم السلام- وفي هذا التأويل من التجوز أن جعل سالف الأمم آباء; إذ الناس في الجملة آخرهم من أولهم. [ ص: 311 ] ويحتمل اللفظ معنى آخر على أن يراد بآباءهم الأولين من فرط من سلفهم في العرب ، كأنه قال: أفلم يدبروا القول أم جاءهم أمر غريب من عند الله لم يأت آباءهم فبهر عقولهم، ونبت عنه أذهانهم، فكأن التوبيخ يتسق بأن يقدر الكلام: أفلم يدبروا أم بهرت عقولهم ونبت أذهانهم عن أمر من أمور الله غريب في سلفهم؟ والمعنى الأول أبين.