قوله عز وجل:
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا
قوله تعالى: ومن الناس الآية. قال : نزلت في ابن جريج النضر بن الحارث ، وأبي بن خلف ، وقيل: في أبي جهل بن هشام ، ثم هي بعد تتناول كل من يتصف بهذه الصفة. و "المجادلة": المحاجة، والمادة مأخوذة من "الجدل" وهو الفتل، والمعنى: "يجادل" في قدرة الله وصفاته. وكان سبب الآية كلام من ذكر في أن الله تبارك وتعالى لا يبعث الموتى، ولا يقيم الأجساد من القبور. و"الشيطان" هنا هو مغويهم من الجن، ويحتمل أن يكون الشيطان من الإنس، والإنحاء على متبعيه. و "المريد": المتجرد من الخير إلى الشر، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء أي عارية من الورق، وصرح [ ص: 215 ] ممرد أي مملس من زجاج، وصخرة مرداء أي ملساء. والضمير في "عليه" عائد على "الشيطان"، قاله ، ويحتمل أن يعود على "المجادل". و "أنه" في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله، و "أنه" الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وقيل: هي مكررة للتأكيد فقط، وهو معترض بأن الشيء لا يؤكد إلا بعد تمامه وتمام "أنه" الأولى إنما هو بصلتها في قوله: "السعير"، وكذلك لا يعطف عليه، قتادة في مثل هذا أنه بدل، وقيل "أنه" الثانية خبر ابتداء محذوف تقديره: فشأنه أنه يضله، وقدره ولسيبويه : فله أن يضله. أبو علي
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
ويظهر لي أن الضمير في "أنه" الأولى للشيطان، وفي الثانية لـ "من" الذي هو المتولي. وقوله: "ويهديه" بمعنى: يدله على طريق ذلك، وليست بمعنى الإرشاد على الإطلاق. وقرأ : "إنه من تولاه فإنه يضله" بالكسر فيهما. أبو عمرو
وقوله تعالى: يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث الآية. هذا احتجاج على العالم بالبدأة الأولى، وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه. و "الريب": الشك، وقوله: البعثة من القبور، إن كنتم شرط مضمنه التوفيق، وقرأ : "البعث" بفتح العين، وهي لغة في "البعث" عند البصريين ، وهي عند الكوفيين تخفيف "بعث". الحسن بن أبي الحسن
وقوله: خلقناكم من تراب يريد آدم ، ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته، وقوله: ثم من نطفة يريد المني الذي يكون من البشر، و "النطفة" تقع على قليل الماء وكثيره، وقال : المراد نطفة النقاش آدم ، وقوله: ثم من علقة يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم، أو المقارن للنطفة، و "العلق": الدم العبيط، وقيل: "العلق": الشديد الحمرة، فسمي الدم لذلك، وقوله: "ثم من مضغة" يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ، وقوله: "مخلقة" معناه: متممة البنية "وغير مخلقة" غير متممة، أي التي تسقط، قاله ، مجاهد ، وقتادة ، والشعبي ، فاللفظة بناء مبالغة من "خلق"، ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل منها مختص بخلق حسن، في جملته تضعيف الفعل؛ لأن فيه خلقا كثيرة، وقرأ وأبو العالية : "مخلقة" بالنصب "وغير" بالنصب في الراء. ابن أبي عبلة
[ ص: 216 ] ويتصل بهذا الموضع من الفقه أن العلماء اختلفوا في فقال أم الولد إذا أسقطت بضعة لم تصور، هل تكون أم ولد بذلك؟ ، مالك ، وغيرهما: هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد، وقال والأوزاعي ، الشافعي : حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد. وأبو حنيفة
وقوله: لنبين لكم ، قالت فرقة: معناه: لنبين أمر البعث، فهو اعتراض بين الكلامين، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في "نقر"، المعنى: ونحن نقر، وهي قراءة الجمهور. وقالت فرقة: "لنبين لكم" معناه: تكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها، كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا، وقرأت هذه الفرقة: "ونقر" بالنصب، وكذلك قرأت: "نخرجكم" بالنصب، وهي رواية عن المفضل ، وحكى عاصم أن رواية أبو عمرو الداني هذه هي بالياء في "يقر" "ويخرجكم"، والرفع على هذا التأويل شائع، ولا يجوز النصب على التأويل الأول. وقرأ المفضل : "ما نشاء" بكسر النون. و "الأجل المسمى" هو مختلف بحسب جنين جنين، فثم من يسقط، وثم من يكمل أمره ويخرج حيا. ابن وثاب
واختلف الناس في "الأشد" من ثمانية عشر، إلى ثلاثين، إلى اثنين وثلاثين، إلى ستة وثلاثين، إلى أربعين، إلى خمسة وأربعين، واللفظ تقال باشتراك، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام. و "الأشد" في الآية يحتمل المعنيين، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه واختلال قوته حتى لا يقدر على إقامة الطاعات، واختلال عقله حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات، وهذا أبدا يلحق مع الكبر، وقد يكون أرذل العمر في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة، وقد ذكر عن رضي الله عنه أن أرذل العمر خمسة وسبعون سنة، وهذا فيه نظر، وإن صح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد: على الأكثر، فقد نرى كثيرا أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر، وقرأ الجمهور : "العمر" [ ص: 217 ] مشبعة، وقرأ علي : "العمر" مخففة الميم، واختلف عنه. نافع
وقوله تعالى: لكيلا يعلم أي: لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئا، فهذا مثال واحد يقضي للمعتد به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.