( 6828 ) مسألة : قال : ( ومن لم يكن له عاقلة ، أخذ من بيت المال ، فإن لم يقدر على ذلك ، فليس على القاتل شيء ) الكلام في هذه المسألة في فصلين : ( 6829 ) الفصل الأول : أن من لا عاقلة له ، هل يؤدي من بيت المال أو لا ؟ فيه روايتان . إحداهما ، يؤدى عنه . وهو مذهب الزهري ، ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري الذي قتل والشافعي بخيبر من بيت المال . وروي أن رجلا قتل في زحام في زمن ، فلم يعرف قاتله ، فقال عمر علي : يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم . فأدى ديته من بيت المال . لعمر
ولأن المسلمين يرثون من لا وارث له ، [ ص: 311 ] فيعقلون عنه عند عدم عاقلته ، كعصباته ومواليه . والثانية ، لا يجب ذلك ; لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ولا عقل عليهم ، فلا يجوز صرفه فيما لا يجب عليهم ، ولأن العقل على العصبات ، وليس بيت المال عصبة ، ولا هو كعصبة هذا ، فأما قتيل الأنصار ، فغير لازم ; لأن ذلك قتيل اليهود ، وبيت المال لا يعقل عن الكفار بحال ، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم تفضل عليهم . وقولهم : إنهم يرثونه . قلنا : ليس صرفه إلى بيت المال ميراثا ، بل هو فيء ، ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة إلى بيت المال ، ولا يرثه المسلمون ، ثم لا يجب العقل على الوارث إذا لم يكن عصبة ، ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثا فعلى الرواية الأولى ، إذا لم يكن له عاقلة ، أديت الدية عنه كلها من بيت المال ، وإن كان له عاقلة لا تحمل الجميع ، أخذ الباقي من بيت المال .
وهل تؤدى من بيت المال في دفعة واحدة ، أو في ثلاث سنين ؟ على وجهين ; أحدهما : في ثلاث سنين ، على حسب ما يؤخذ من العاقلة . والثاني ، يؤدي دفعة واحدة . وهذا أصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى دية الأنصاري دفعة واحدة ، وكذلك ، ولأن الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة ، فيجب كله في الحال ، كسائر بدل المتلفات ، وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم ، ولا حاجة إلى ذلك في بيت المال ، ولهذا يؤدى الجميع ( 6830 ) الفصل الثاني : عمر ، فليس على القاتل شيء . وهذا أحد قولي إذا لم يمكن الأخذ من بيت المال ; لأن الدية لزمت العاقلة ابتداء ، بدليل أنه لا يطالب بها غيرهم ، ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم بها ، ولا تجب على غير من وجبت عليه ، كما لو عدم القاتل ، فإن الدية لا تجب على أحد ، كذا هاهنا . الشافعي
فعلى هذا ، إن وجد بعض العاقلة ، حملوا بقسطهم ، وسقط الباقي ، فلا يجب على أحد ، ويتخرج أن إذا تعذر حملها عنه . وهذا القول الثاني تجب الدية على القاتل ; لعموم قول الله تعالى : { للشافعي ودية مسلمة إلى أهله } . ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبرا للمحل الذي فوته ، وإنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل ، فإذا لم يؤخذ ذلك ، بقي واجبا عليه بمقتضى الدليل ، ولأن الأمر دائر بين أن يطل دم المقتول ، وبين إيجاب ديته على المتلف ، لا يحوز الأول ; لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة ، فتعين الثاني ، ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له ، وإيجاب الدية على قاتل الخطأ له نظائر ، فإن المرتد لما لم يكن له عاقلة تجب الدية في ماله تلزمه الدية ، ومن ، والذمي الذي لا عاقلة له ، كانت الدية في ماله ; لتعذر حمل عاقلته عقله ، كذلك هاهنا ، فنحرر منه قياسا فنقول : قتيل معصوم في دار الإسلام ، تعذر حمل عاقلته عقله ، فوجب على قاتله ، كهذه الصورة . رمى سهما ثم أسلم ، أو كان مسلما فارتد ، أو كان عليه الولاء لموالي أمه فانجر إلى موالي أبيه ، ثم أصاب بسهم إنسانا فقتله
وهذا أولى من إهدار دماء الأحرار في أغلب الأحوال ، فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ، ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال ، فتضيع الدماء ، ويفوت حكم إيجاب الدية . وقولهم : إن الدية تجب على العاقلة ابتداء . ممنوع ، وإنما تجب على القاتل ، ثم تتحملها العاقلة عنه . وإن [ ص: 312 ] سلمنا وجوبها عليهم ابتداء ، لكن مع وجودهم ، أما مع عدمهم ، فلا يمكن القول بوجوبها عليهم . ثم ما ذكروه منقوض بما أبديناه من الصور . فعلى هذا ، تجب الدية على القاتل إن تعذر حمل جميعها ، أو باقيها إن حملت العاقلة بعضها . والله أعلم .