الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) ولا يجمع بين الجلد والرجم ، ولا بين الجلد والنفي أما في حق [ ص: 44 ] الجمع بين الجلد والرجم في حق المحصن فقد بيناه ، وأما في حق البكر فلا يجمع بين الجلد والنفي عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : يجمع بينهما فيجلد مائة ويغرب سنة ، واحتج في ذلك { بحديث العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على ابنك جلد مائة وتغريب عام } وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب وأبو بكر رضي الله عنه ضرب وغرب وعمر رضي الله عنه ضرب وغرب ، واشتغل بعضهم بالقياس فقال : النفي مما يقع به التعزير فكان من جنسه حدا كالجلد ، ولكن هذا كلام الجهال فإن إثبات الحدود وتكميلها بالقياس لا يكون ولكن الحرف لهم أن الزنا قبل أن تتخذه المرأة عادة تكتسب به إنما ينشأ من الصحبة والمؤالفة والمؤانسة ، والفراغ والتغريب قاطع لهذا السبب والحد مشروع للزجر عن ارتكاب سببه فما يكون قاطعا للسبب يحصل به المقصود فيكون حدا .

ألا ترى أن حد السرقة مشروع بقطع اليد والرجل ; لأن تمكنه من هذا الفعل بالمشي والبطش فقطع الآلة الماشية والباطشة مانع له من ذلك ولا معنى لقولكم كيف تنفي مع المحرم أو بغير محرم ; لأن النفي هجرة واجبة فلا يعتبر فيه المحرم كالهجرة في التي أسلمت في دار الحرب ، فلما كان حدا فعلى الإمام أن يتكلف لما يحتاج إليه في إقامته كالجلد .

( وحجتنا ) فيه قوله تعالى { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فقد جعل الجلد جميع حد الزنا فلو أوجبنا معه التغريب كان الجلد بعض الحد فيكون زيادة على النص وذلك يعدل النسخ ، وروي { أن محدجا سقيما وجد على بطن أمة من إماء الحي يفجر بها فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اضربوه مائة ، فقالوا : إن بدنه لا يحتمل الضرب ، فقال صلى الله عليه وسلم : خذوا عثكالا عليه مائة شمراخ فاضربوه بها } ولم يأمره بالتغريب ، ولو كان ذلك حدا لتكلف له كما تكلف للحد ، وأن عمر رضي الله عنه جلد أبا بكرة رضي الله تعالى عنه في داره على الزنا ، وأمر امرأته أن تكتم فلو كان التغريب متمما للحد لما أمرها بالكتمان ; لأن ذلك لا يتصور ولما نفي شارب الخمر ارتد ولحق بالروم فقال والله لا أنفي أحدا بعد هذا أبدا فلو كان مشروعا حدا لما حلف أن لا يقيمه قال علي رضي الله عنه كفى بالنفي فتنة والحد مشروع لتسكين الفتنة فما يكون فتنة لا يكون حدا .

وعن إبراهيم رحمه الله تعالى أن عليا وابن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في أم ولد زنت بعد موت مولاها قال علي رضي الله عنه تجلد ، ولا تنفى ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه تنفى وأخذنا بقول علي رضي الله عنه ; لأنه أقرب إلى دفع الفتنة والفساد ومعنى هذا ما ذكره في الكتاب قال أرأيت شابة زنت أكنت [ ص: 45 ] أنفيها ؟ أي في نفيها تعريض لها لمثل ما ابتليت به فإنها عند أبويها تكون محفوظة ففي دار الغربة تكون خليعة العذار ، والنساء لحم على وضم إلا ما ذب عنهن ، وإنما تبقى المرأة محفوظة بالحافظ والاستحياء وذلك ينعدم بالتغريب فيكون تعريضا لها للإقدام على هذه الفاحشة برفع المانع وهذا أولى مما قاله الخصم ; لأن ما ينشأ عن الصحبة والمؤانسة يكون مكتوما ، وما ينشأ عن المواقحة يكون ظاهرا ، فإن في هذا قطعا لسبب ما ينشأ عن المحادثة وهو مكتوم ففيه تعريض للزنا بطريق الوقاحة وهو أفحش ثم قال : أرأيت أمة زنت أكنت أنفيها ؟ فأحول بينها وبين مولاها وبين خدمتها وحق المولى في الخدمة مرعي وهو مقدم على الشرع ، وإذا ثبت أن الأمة لا تنفى فكذلك الحرة ; لأن الله قال { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وإذا ثبت أن نصف الحد خمسون جلدة ثبت أن كماله مائة جلدة ثم لا يجوز أن تنفى الحرة مع المحرم ; لأن المحرم لم يزن فكيف يقام عليه الحد ؟ وبدون المحرم هي ممنوعة عن المسافرة شرعا فلا يجوز إقامة الحد بطريق فيه إبطال ما هو مستحق شرعا .

فأما المهاجرة لا تقصد السفر بغير محرم وإنما تقصد التخلص من المشركين حتى لو وصلت إلى جيش لهم منعة في دار الإسلام وأمنت لم يكن لها أن تسافر بغير محرم بعد ذلك ، فأما الحديث فقد بينا أن الجمع بين الجلد والتغريب كان في الابتداء ثم انتسخ بنزول سورة النور .

والمراد بالتغريب الحبس على سبيل التعزير قيل في تأويل قوله تعالى { أو ينفوا من الأرض } : إنه الحبس ، وقال القائل :


ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب



أي : محبوس ، ونحن نقول بحبس بطريق التعزير حتى تظهر توبته وإن ثبت النفي على أحد فذلك بطريق المصلحة لا بطريق الحد كما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هيت المخنث من المدينة ، ونفى عمر رضي الله عنه نصر بن حجاج من المدينة حين سمع قائلة تقول :

هل من سبيل إلى خمر فأشربها     أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج

فنفاه والجمال لا يوجب النفي ولكن فعل ذلك للمصلحة ، فإنه قال : وما ذنبي يا أمير المؤمنين قال : لا ذنب لك وإنما الذنب لي حيث لا أطهر دار الهجرة منك ، وقول ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى في النفي كقول الشافعي رحمه الله تعالى ، إلا أنه يقول ينفي إلى بلد غير البلد الذي فجر فيه ولكن دون مسيرة سفر وعند الشافعي رحمه الله لا يكون النفي دون مسيرة سفر .

( قال ) ولا يكون محصنا بالجماع في النكاح الفاسد ; لأنه نوع من الوطء الحرام فلا يتم به عليه النعمة [ ص: 46 ] ولا يستفيد كمال الحال ، والإحصان عبارة عن ذلك ولا بالجماع في النكاح الصحيح إذا كان قال لها إن تزوجتك فأنت طالق ; لأن الدلالة قامت لنا على أنها تطلق بنفس العقد فجماعه إياها بعد ذلك يكون زنى إلا أنه لا يجب به الحد لشبهة اختلاف العلماء ولكن لا يستفاد بهذا الفعل كمال الحال ، وكذلك إن تزوج المسلم مجوسية أو مسلمة بغير شهود فدخل بها ; لأن هذا من أنواع النكاح الفاسد

التالي السابق


الخدمات العلمية