الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وإذا قطعت يد السارق ، وقد قطع الثوب قميصا ، ولم يخطه أو صبغه أسود أو باعه من رجل أو وهبه منه ، وهو بعيبه في يده فإنه يرد على المسروق منه ; لأن القطع نقصان ، وكذلك السواد في الثوب نقص والبيع والهبة من السارق باطل ; لأنه حصل في ملك الغير بغير أمر صاحبه فكما يكون للمسروق منه أن يأخذه إذا وجده في يد السارق ، فكذلك إذا وجده في يد المشتري منه فإن كان خاط الثوب فلا سبيل للمسروق منه عليه لما اتصل بالثوب من وصف متقوم هو حق السارق ، ألا ترى أن الغاصب لو قطع الثوب وخاطه لم يتمكن المغصوب منه من أخذ الثوب منه بعد ذلك ؟ فهذا مثله إلا أن هناك يكون الغاصب ضامنا للثوب بمنزلة ما لو أتلفه أو تلف في يده وها هنا لا يكون ضامنا ; لأنه لو تلف في يده أو أتلفه بعد القطع لا يضمن ، فكذلك إذا احتبس عنده بما اتصل به من الوصف حقا له ، فأما إذا صبغه أحمر أو أصفر .

فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ينقطع حق المسروق منه في الاسترداد ، وعند محمد رحمه الله لا ينقطع ، ولكنه يأخذ الثوب ويعطي السارق ما زاد الصبغ فيه ; لأن عين الثوب قائم بعد الصبغ ، ومن وجد عين ماله فهو أحق به بالنص ثم الصبغ لو حصل من الغاصب لم ينقطع به حق المغصوب منه في الاسترداد ، فكذلك من السارق إلا أن ما اتصل به من الصبغ مال متقوم من الصباغ [ ص: 173 ] وهو وصف والثوب أصل والوصف تبع للأصل فكان لصاحب الأصل أن يأخذه فيعطيه ما زاد الصبغ فيه ، كما في الغاصب ، ولو أراد أن يسلم له الثوب ويضمنه قيمة ثوبه أبيض لم يكن له ذلك بخلاف الغصب ; لأن عند تسليم الثوب له يجعله في حكم المستهلك ، ولو استهلك المغصوب حقيقة كان ضامنا له ، ولو استهلك المسروق حقيقة لم يكن ضامنا فباعتبار هذا المعنى يقع الفرق بينهما في هذا الجانب ، فأما عند اختيار الأخذ فلا فرق بين الغاصب والسارق ، ومن حيث إن كل واحد منهما جان وأن مراعاة حقه بأداء قيمة الصبغ إليه ممكن فلا ضرورة في قطع حق صاحب الثوب عن الثوب وجه قولهما أن الوصف الذي اتصل بالثوب متقوم حقا للسارق فينقطع به حق المسروق منه في الاسترداد كالخياطة ، وهذا ; لأن هذا حق ضعيف له مقصور على العين ، ألا ترى أنه لا يتعدى إلى بدل العين عند الاستهلاك ؟ ومثل هذا الحق يبطل بالصبغ كحق الواهب في الرجوع وترجيح الأصل عند مساواة الحقين في القوة ، فأما الضعيف لا يظهر في مقابلة القوي بخلاف الغاصب ، فإن حق المغصوب منه قوي يسري إلى بدل العين فيستقيم الترجيح هناك باعتبار الأصل والتبع .

واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى في الأمالي بحرف آخر فقال : لو بقي الثوب على ملك المسروق منه بعد الصبغ تعذر استيفاء القطع من السارق ; لأنه يصير شريكا في العين بملكه في الصبغ ، واقتران الشركة بالسرقة يمنع وجوب القطع فاعتراضها بعد السرقة يمنع الاستيفاء وبالإجماع يستوفى القطع من السارق فعرفنا أنه لم يبق حق المسروق منه في الثوب .

( فإن قيل ) هذا فاسد ، فإنه إذا جعل السارق متملكا للثوب يمنع استيفاء القطع منه أيضا .

( قلنا ) نعم ، ولكن يجعل الثوب في حكم المستهلك ، فإنما يقطع بسرقة ما قد صار مستهلكا لا باعتبار ما هو مملوك له في الحال ، كما إذا خاط الثوب ، فأما مع بقاء حق الأخذ له لا يمكن جعله مستهلكا فيتقرر معنى الشركة وعلى هذا الطريق نقول لو صبغه بعد ما قطعت يده لا يتعذر على المسروق منه الاسترداد ; لأنه لا تأثير للشركة بعد استيفاء القطع والدليل على اعتبار معنى الشركة أن في المغصوب لو اختار المغصوب منه بيع الثوب استقام ذلك وضرب صاحب الثوب في الثمن بقيمة الثوب أبيض والآخر بقيمة الصبغ ، وهذا لا يكون بعد ثبوت الشركة بينهما في المبيع وعلى هذا الخلاف لو كان المغصوب سويقا فلته بسمن ; لأن السمن زيادة في السويق من غير أن يكون مبدلا للعين حتى لا ينقطع به حق المغصوب منه فهو [ ص: 174 ] كالصبغ في الثوب في جميع ما ذكرنا ، وإن كان المسروق دراهم فسبكها أو صاغها قلنا كان للمسروق منه أن يأخذها ; لأن الصنعة بانفرادها لا تتقوم في الذهب والفضة فلا تثبت الشركة باعتبارها بينهما ، وقد ذكر الخلاف في الجامع الصغير في الغصب أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا ينقطع به حق المغصوب منه عن استرداد العين وعندهما ينقطع ، فكذلك في السرقة والأصح أنه على ذلك الخلاف ، ومنهم من يفرق لأبي يوسف رحمه الله تعالى فيقول هناك لو اعتبرنا حق الغاصب في الصنعة لم يبطل به حق المغصوب منه أصلا ، ولكنه يضمنه مثل المغصوب وها هنا لو اعتبرنا ذلك بطل به حق المسروق منه ; لأنه لا يتمكن من تضمين السارق والعين متقوم من كل وجه والصنعة تتقوم تبعا للأصل ، وإن كانت لا تتقوم منفردة عن الأصل فكان إبقاء حق المسروق منه في العين أولى .

فإن كانت السرقة صفرا فجعلها قمقمة أو حديدا فجعله درعا لم يأخذه ; لأن للصنعة قيمة في هذه الأعيان ، ولهذا يخرج بالصنعة من أن يكون مال الربا فلا بد من اعتبارها حقا للسارق ثم هذه الصنعة لو وجدت من الغاصب انقطع بها حق المغصوب منه عن استرداد العين ، فكذلك إذا وجدت من السارق ، وكذلك كل شيء من العروض وغيرها إذا كان قد غيره عن حاله فإن كان التغيير بالنقصان فللمسروق منه أن يأخذ ، كما للمغصوب منه إلا أن المغصوب منه يضمن الغاصب النقصان والمسروق منه لا يضمنه النقصان اعتبارا لإتلاف الجزء بإتلاف الكل ، وإن كان التغيير زيادة فيه فإن كان على وجه لو حصل من الغاصب لا يتمكن المغصوب منه من أخذ العين بعد ذلك ، فكذلك المسروق منه لا يتمكن من أخذه ، وإن كان على وجه لا يتعذر على المغصوب منه استرداد العين فهو على الخلاف الذي بينا

التالي السابق


الخدمات العلمية