الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1313 133 - حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة . [ ص: 209 ]

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  [ ص: 209 ] مطابقته للترجمة ظاهرة ; لأنها جزء من الحديث .

                                                                                                                                                                                  ورجاله قد ذكروا غير مرة ، وإسماعيل بن أبي أويس واسمه عبد الله وهو ابن أخت مالك رحمه الله .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في صفة النار عن يحيى بن يحيى ، وأخرجه النسائي في الجنائز عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله ( بالغداة ) ; أي في الغداة وفي العشي .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ) ; يعني : إن كان الميت من أهل الجنة فمقعده من مقاعد أهل الجنة يعرض عليه ، وقال الطيبي : يجوز أن يكون المعنى إن كان من أهل الجنة فسيبشر بما لا يكتنه كنهه ; لأن هذا المنزل لطليعة تباشير السعادة الكبرى ، لأن الشرط والجزاء إذا اتحدا دل على الفخامة كقولهم : من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى . قلت : الصمان - بفتح الصاد المهملة وتشديد الميم وبعد الألف نون - جبل ينقاد ثلاث ليال وليس له ارتفاع ، سمي به لصلابته .

                                                                                                                                                                                  قوله ( حتى يبعثك الله يوم القيامة ) ، وفي رواية مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك : حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة . وحكى ابن عبد البر فيه الاختلاف بين أصحاب مالك وأن الأكثرين رووه كرواية البخاري وأن ابن القاسم رواه كرواية مسلم ، قال : والمعنى حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد . ويحتمل أن يعود الضمير على الله ، وإلى الله ترجع الأمور ، وكونه عائدا إلى المقعد الذي يصير إليه أشبه ، ويؤيده رواية الزهري عن سالم عن أبيه بلفظ : " ثم يقال : هذا مقعدك الذي تبعث إليه يوم القيامة " ، أخرجه مسلم . وقد أخرج النسائي رواية ابن القاسم ، لكن لفظه كلفظ البخاري ، وقال الطيبي : معنى " حتى يبعثك الله " - وحتى للغاية - أنه يرى بعد البعث من عند الله كرامة ومنزلة ينسى عنده هذا المقعد ، كما قال صاحب الكشاف في قوله تعالى : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين أي إنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى يوم الدين ، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما تنسى اللعن معه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) : فيه عرض مقعد الميت عليه ، قيل : معنى العرض هنا الإخبار بأن هذا موضع أعمالكم والجزاء لها عند الله تعالى ، وأريد بالبكور بالغداة والعشي تذكارهم بذلك ، ولسنا نشك أن الأجساد بعد الموت والمساءلة هي في الفوات وأكل التراب لها والفناء ولا يعرض شيء على الفاني ، فبان أن العرض الذي يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة لأنها لا تفنى . وقال أبو الطيب : اتفق المسلمون على أنه لا غدو ولا عشي في الآخرة ، وإنما هو في الدنيا ، فهم معرضون بعد مماتهم على النار ، وقيل يوم القيامة ، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب ، انتهى . قلت : قال الله تعالى : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا والذي يقال في هذه الآية يقال في هذا أيضا ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين : ويحتمل أن يراد بالغداة والعشي غداة واحدة وعشية واحدة يكون العرض فيها ، ومعنى قوله " حتى يبعثك الله " أي لا تصل إليه إلى يوم البعث ، ويحتمل أن يريد كل غداة وكل عشي وذلك لا يكون إلا بأن يكون الإحياء بجزء منه ، فإنا نشاهد الميت ميتا بالغداة والعشي وذلك يمنع إحياء جميعه وإعادة جسمه ، ولا يمتنع أن تعاد الحياة في جزء أو أجزاء منه ، وتصح مخاطبته والعرض عليه ، ويحتمل أن يريد بذلك غداة واحدة ويكون العرض فيها ويكون معنى قوله " حتى يبعثك الله " أي أنه مقعدك لا تصل إليه حتى يبعثك الله . وقال القرطبي : يجوز أن يكون هذا العرض على الروح فقط ، ويجوز أن يكون عليه مع جزء من البدن . قال : وهذا في حق المؤمن والكافر واضح ، وأما المؤمن المخلط فيحتمل أيضا في حقه لأنه يدخل الجنة في الجملة ثم هو مخصوص بغير الشهداء . وقيل : يحتمل أن يقال إن فائدة العرض في حقهم تبشير أرواحهم باستقرارها في الجنة مقترنة بأجسادها ، فإن فيه قدرا زائدا على ما هي فيه الآن ، وفيه ما قال ابن عبد البر عن بعضهم وهو الاستدلال به على أن الأرواح على أفنية القبور . قال : والمعنى عندي أنها قد تكون على أفنية القبور لا أنها لا تفارق الأفنية ، بل هي كما قال مالك أنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت . قلت : كونها تسرح حيث شاءت لا يمنع كونها على الأفنية ; لأنها تسرح ثم تأوي إلى القبر ، وعن مجاهد : الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت لا تفارق .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية