الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1273 94 - حدثنا عياش قال : حدثنا عبد الأعلى قال : حدثنا سعيد قال : وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " العبد إذا وضع في قبره وتولى وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيراهما جميعا ، وأما الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال : لا دريت ولا تليت ، ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين " .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله ( إنه يسمع قرع نعالهم ) ( فإن قلت ) : في الترجمة خفق النعال فلا تطابق ( قلت ) : الخفق والقرع في [ ص: 143 ] المعنى سواء على أنه ورد في بعض طرق الحديث بلفظ الخفق ، وهو ما رواه أبو داود وأحمد من حديث البراء بن عازب في أثناء حديث طويل فيه ( وإنه ليسمع خفق نعالهم ) ، وروى أبو داود أيضا نحو رواية البخاري وقال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ، حدثنا عبد الوهاب يعني ابن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم "

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله )

                                                                                                                                                                                  وهم سبعة : الأول : عياش بفتح العين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف ، وفي آخره شين معجمة ابن الوليد الرقام مر في باب الجنب يخرج ، الثاني : عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي بالسين المهملة ، الثالث : خليفة من الخلافة بالخاء المعجمة والفاء ابن خياط بالخاء المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف ، الرابع : يزيد من الزيادة ابن زريع بضم الزاي وقد مر غير مرة ، الخامس : سعيد بن أبي عروبة ، السادس : قتادة بن دعامة ، السابع : أنس بن مالك .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه ساق حديثه مقرونا برواية خليفة عن يزيد بن زريع على لفظ خليفة وهو معنى قوله : وقال لي خليفة أي قال البخاري : قال لي خليفة ، ومثل هذا إذا قال يكون قد أخذه عنه في المذاكرة غالبا ، ولهذا قال أبو نعيم الأصبهاني : إن البخاري رواه عن خليفة وعياش الرقام ، وفيه أن رواته كلهم بصريون

                                                                                                                                                                                  ( ذكر من أخرجه غيره ) : أخرجه مسلم في صفة النار قال : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، ( عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال لي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم قال : يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله قال : فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة ، قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : فيراهما جميعا " قال قتادة : وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضراء إلى يوم يبعثون ) . وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن سليمان الأنباري ، وأخرجه النسائي فيه عن أحمد بن أبي عبد الله الوراق مختصرا ومطولا ، وعند ابن ماجه عن أبي هريرة يرفعه : " إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح غير فزع ولا مشغوب ثم يقال له : فيم كنت ؟ فيقول : كنت في الإسلام فيقال : ما هذا الرجل ؟ فيقول : محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه ، فيقال له : هل رأيت الله ؟ فيقول : لا وما ينبغي لأحد أن يراه فيفرج له فرجة قبل النار ، فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له : انظر إلى ما وقاك الله ، ثم تفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال : هذا مقعدك ، ويقال له : على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى ، ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوبا فيقال له : فيم كنت ؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : ما هذا الرجل ؟ فيقول : سمعت الناس يقولون قولا فقلته ، فيفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها ، فيقال له : انظر إلى ما صرفه الله عنك ، ثم تفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له : هذا مقعدك ، على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى " . وفي رواية الحاكم : " فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه ، وكان الصوم عن يمينه ، وكانت الزكاة عن يساره ، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه ، فأي جهة أتي منها يمنع ، فيقعد فتمثل له الشمس قد دنت للغروب فيقال له : ما تقول في هذا الرجل ؟ " الحديث مطولا ، وقال : صحيح ولم يخرجاه . وفي رواية الترمذي عن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قبر الميت ، أو قال أحدكم ، أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول ، هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول هذا ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ، ثم ينور له فيه ، ثم يقال له : نم ، فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ، فإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم لا أدري ، فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول ذلك ، فيقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، وفي الأوسط للطبراني : ووصف الملكين أعينهما مثل [ ص: 144 ] قدور النحاس وأنيابهما مثل صياصي البقر ، وفي رواية ابن حبان : " أتدرون فيمن أنزلت هذه الآية : فإن له معيشة ضنكا هو عذاب الكافر في القبر يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين ؟ هو تسعة وتسعون حية ، لكل حية تسعة أرؤس ينفخن له ويلسعنه إلى يوم القيامة "

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله : ( العبد ) أي العبد المؤمن المخلص ، قوله : ( وتولى ) أي أعرض وذهب أصحابه وهو من باب تنازع العاملين ، وقال ابن التين : إنه كرر اللفظ والمعنى واحد ، ( قلت ) : لا نسلم أن المعنى واحد ; لأن التولي هو الإعراض ولا يستلزم الذهاب ، وقال بعضهم : رأيت أن لفظ تولى مضبوطا بخط معتمد على صيغة المجهول أي تولى أمره أي الميت ، ( قلت ) : لا يعتمد على هذا والمعنى ما ذكرناه ، قوله : ( قرع نعالهم ) أي نعال الناس الذين حول قبره من الذين باشروا دفنه وغيرهم ، وقرع النعال صوتها عند المشي ، والقرع في الأصل الضرب ، فكأن أصحاب النعال إذا ضربوا الأرض بها خرج منها صوت ، قوله : ( ملكان ) وهما المنكر والنكير كما فسر في حديث أبي هريرة وغيره ، وإنما سميا بهذا الاسم لأن خلقهما لا يشبه خلق الآدميين ولا خلق الملائكة ولا خلق البهائم ولا خلق الهوام ، بل لهما خلق بديع ، وليس في خلقتيهما أنس للناظرين إليهما ، جعلهما الله تكرمة للمؤمنين لتثبته وتبصره ، وهتكا لستر المنافق في البرزخ من قبل أن يبعث حتى يحل عليه العذاب ، وسميا أيضا فتانا القبر لأن في سؤالهما انتهارا وفي خلقهما صعوبة ، وقال ابن الجوزي بسند ضعيف : ناكور وسيدهم رومان ، قوله : ( فأقعداه ) أي أجلساه ، قال الكرماني رحمه الله تعالى : وهما مترادفان ، وهذا يبطل قول من فرق بينهما بأن القعود هو عن القيام والجلوس عن الاضطجاع ، ( قلت ) : استعمال الإقعاد موضع الإجلاس لا يمنع الفرق المذكور ، قوله : ( في هذا الرجل محمد ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقوله : ( محمد ) بالجر عطف بيان عن الرجل ويجوز أن يكون بدلا ( فإن قلت ) : هذه عبارة خشنة ليس فيها تعظيم ولا توقير ( قلت ) : قصد بها الامتحان للمسئول لئلا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل ، ثم يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، قوله : ( فيقال ) : يحتمل أن يكون هذا القول من المنكر والنكير ، ويحتمل أن يكون من غيرهما من الملائكة ، قوله : ( فيراهما ) أي المقعدين اللذين أحدهما من الجنة والآخر من النار ، قوله : ( أو المنافق ) شك من الراوي والمراد بالمنافق الذي يقر بلسانه ولا يصدق بقلبه

                                                                                                                                                                                  وظاهر الكلام وهو قوله : ( لا أدري كنت أقول كما يقول الناس ) يشمل الكافر والمنافق ولكن الكافر لا يقول ذلك ، فيتعين المنافق كما في رواية الترمذي ، قوله : ( لا دريت ) قال الداودي : أي لا وقفت في مقامك هذا ولا في البيت ، قوله : ( ولا تليت ) قال الخطابي : هكذا يرويه المحدثون وهو غلط والصواب ايتليت على وزن افتعلت من قولك : ما ألوته أي ما استطعته ، ويقال : لا آلو كذا أي لا أستطيعه ، ( قلت ) : وكذا قال ابن السكيت : قولهم : لا دريت ولا ايتليت هو افتعلت من قولك ما ألوت هذا أي ما استطعته من ألا يألو أي قصر أو فلان لا يألوك نصحا فهو آل والمرأة آلية وجمعها أوال ، ويقال أيضا : ألى يؤلي تألية إذا قصر وأبطأ ، وقال ابن قرقول : قيل معناه لا تلوت يعني القرآن ، أي لم تدر ولم تتل ، أي لم تنتفع بدرايتك ولا بتلاوتك كما قال : ( فلا صدق ولا صلى ) قيل : معناه لا اتبعت الحق قاله الداودي ، وقيل : لا اتبعت ما تدري قاله القزاز ، وقال ابن الأنباري : تليت غلط والصواب أتليت بفتح الهمزة وسكون التاء يدعو عليه بأن تتلى إبله أي لا يكون لها أولاد تتلوها أي تتبعها ، وقال ابن سراج : هذا بعيد في دعاء الملكين للميت وأي مال له ، وقال القاضي : لعل ابن الأنباري رأى أن هذا أصل هذا الدعاء ثم استعمل في غيره كما استعمل غيره من أدعية العرب ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) : ابن الأنباري لم يذكر الملكين ، وإنما بين الصواب من الخطأ في هذه المادة ، وقوله بأن لا تتلى إبله من أتليت الناقة إذا تلاها ولدها ، وقال الجوهري : ومنه قولهم : لا دريت ولا أتليت يدعو عليه بأن لا تتلى إبله أي لا يكون لها أولاد ، وتلو الناقة ولدها الذي يتلوها ، وقال ثعلب : لا دريت ولا تليت ، أصله ولا تلوت فقلبت الواو ياء لازدواج الكلام، ( قلت ) : هذا أصوب من كل ما ذكروه في هذا الباب ، والدليل عليه أن هذه اللفظة جاءت هكذا في حديث البراء في مسند أحمد ( لا دريت ولا تلوت ) أي لم تتل القرآن فلم تنتفع بدرايتك ولا تلاوتك ، وقال الزمخشري : معناه ولا اتبعت الناس بأن تقول شيئا يقولونه ، وقيل : لا قرأت فقلبت الواو ياء للمزاوجة أي ما علمت بنفسك بالاستدلال ولا اتبعت العلماء بالتقليد [ ص: 145 ] وقراءة الكتب ، وقال ابن بطال : الكلمة من ذوات الواو لأنها من تلاوة القرآن لكنه لما كان مع دريت تكلم بالياء ليزدوج الكلام ، ومعناه الدعاء عليه أي لا كنت داريا ولا تاليا ، قوله : ( ثم يضرب ) على صيغة المجهول أي الميت ، قوله : ( بمطرقة ) بكسر الميم ، قال الجوهري : طرق النجاد الصوف يطرقه طرقا إذا ضربه ، والقضيب الذي يضرب به يسمى مطرقة ، وكذلك مطرقة الحداد ، قوله : ( من حديد ) يجوز فيه الوجهان أحدهما : أن يكون صفة لموصوف محذوف أي من ضارب حديد أي قوي شديد الغضب ، والآخر : أن يكون صفة لمطرقة فعلى هذا تكون كلمة من بيانية ثم إن الظاهر أن الضارب غير المنكر والنكير ولكن يحتمل أن يكون أحدهما ويحتمل أن يكون غيرهما ، وقد روى أبو داود في سننه ما يدل على جواز الوجهين ، الأول : ما رواه من حديث البراء بن عازب قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثا وإنه يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين حين يقال له : يا هذا من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ قال هناد : ويأتيه ملكان ويجلسانه " الحديث ، وفيه : " ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا ، قال : فيضربه بها ضربة يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم يعاد فيه الروح " فهذا يدل صريحا على أن الضارب غير المنكر والنكير ، والثاني : ما رواه أبو داود " عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل نخلا لبني النجار فسمع صوتا ففزع فقال : من أصحاب هذه القبور ؟ قالوا : يا رسول الله ناس ماتوا في الجاهلية " الحديث بطوله ، وفيه : " فيقول له : ما كنت تعبد فيقول له : لا أدري فيقول : لا دريت ولا تليت فقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : كنت أقول ما يقول الناس ، فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين " فهذا يدل صريحا على أن الضارب هو الملك الذي يسأله ، وهو إما المنكر أو النكير . ( فإن قلت ) : كيف وجه جمع الوجهين ؟ ( قلت ) : يحتمل أن يكون الضرب متعددا مرة من أحد الملكين ومرة من الأعمى الأبكم ، وكل هذا في حق الكفار فافهم ، قوله : ( من يليه ) أي من يلي الميت ؟ قيل : المراد به الملائكة الذين تكون فتنته ومساءلته ، قوله : ( إلا الثقلين ) أي غير الثقلين وهما الإنس والجن وسميا به لثقلهما على الأرض ( فإن قلت ) : ما الحكمة في منع الثقلين من سماع صيحة ذاك المعذب بمطرقة الحديد ؟ ( قلت ) : لو سمعا لارتفع الابتلاء وصار الإيمان ضروريا ولأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما مما يتوقف عليه بقاؤهما ، ( فإن قلت ) : من للعقلاء فانحصر السماع على الملائكة ( قلت ) : نعم ، وقيل : المراد منه العقلاء وغيرهم وغلب جانب العقل وهذا أظهر ، وقيل : المراد بمن يليه أعم من الملائكة الذين تكون فتنته وغيرهم من الثقلين وإنما منعت الجن هذه النصيحة ولم يمنع سماع كلام الميت إذا حمل وقال : قدموني قدموني ، لأن كلام الميت حين يحمل إلى قبره في حكم الدنيا ، وليس فيه شيء من الجزاء والعقوبة لأن الجزاء لا يكون إلا في الآخرة ، وإنما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة فأسمعه الله الجن لأنه جعل فيهم قوة يثبتون بها عند سماعه ولا يصعقون بخلاف الإنسان الذي كان يصعق لو سمعه ، وصيحة الميت في القبر عند فتنته هي عقوبة وجزاء فدخلت في حكم الآخرة فمنع الله تعالى الثقلين اللذين هما في دار الدنيا سماع عقوبته وجزائه في الآخرة وأسمعه سائر خلقه .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه )

                                                                                                                                                                                  فيه إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، وأنكر ذلك ضرار بن عمرو وبشر المريسي وأكثر المتأخرين من المعتزلة ، واحتجوا في ذلك بقوله تعالى : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي لا يذوقون في الجنة موتا سوى الموتة الأولى ، ولو صاروا أحياء في القبور لذاقوا مرتين لا موتة واحدة ، وبقوله تعالى : وما أنت بمسمع من في القبور فإن الغرض من سياق الآية تشبيه الكفرة بأهل القبور في عدم الإسماع ، وقالوا : أما من جهة العقل فإنا نرى شخصا يصلب ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه ولا نشاهد فيه إحياء ومساءلة ، والقول لهم بهما مع المشاهدة سفسطة ظاهرة وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها ، وأبلغ منه من أحرق حتى يفتت وذري أجزاؤه المفتتة في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا فإنا نعلم عدم إحيائه ومساءلته وعذابه ضرورة ، ولنا آيات : إحداها : قوله تعالى : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا فهو صريح في التعذيب بعد الموت ، الثانية : قوله تعالى : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فإن الله تعالى ذكر الموتة مرتين وهما لا تتحققان [ ص: 146 ] إلا أن يكون في القبر حياة وموت حتى تكون إحدى الموتتين ما يتحصل عقيب الحياة في الدنيا والأخرى ما يتحصل عقيب الحياة التي في القبر ، والثالثة : قوله تعالى : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب عطف هذا العذاب الذي هو عذاب يوم القيامة على العذاب الذي هو عرض النار صباحا ومساء فعلم أنه غيره ، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وبشر بن المعتمر إلى أن الكافر يعذب فيما بين النفختين أيضا ، وإذا ثبت التعذيب ثبت الإحياء والمساءلة لأن كل من قال بعذاب القبر قال بهما .

                                                                                                                                                                                  ولنا أيضا أحاديث صحيحة وأخبار متواترة منها حديث الباب ، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وقد ذكرناه فيه ، ومنها حديث زيد بن ثابت أخرجه مسلم مطولا وفيه : " تعوذوا بالله من عذاب القبر " ، ومنها حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أخرجه الستة عنه قال : " مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال : إنهما ليعذبان " الحديث ، ومنها حديث البراء بن عازب أخرجه الستة قال : " إذا قعد المؤمن في قبره أتي فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة لفظ البخاري ، وفي رواية في الصحيحين : " يثبت الذين آمنوا نزلت في عذاب القبر " ، ومنها حديث أبي أيوب أخرجه الشيخان والنسائي ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ومنها حديث أبي سعيد أخرجه ابن مردويه في تفسيره عنه قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر " ، ومنها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أخرجه الشيخان والنسائي وفيه : عذاب القبر حق ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ومنها حديث عمر رضي الله تعالى عنه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عنه " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ من الجبن والبخل وعذاب القبر وفتنة الصدر " ، ومنها حديث سعد رواه البخاري والترمذي والنسائي أنه كان يقول لبنيه : أي بني تعوذوا بكلمات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بهن ، فذكر عذاب القبر ، ومنها حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرجه الطحاوي وغيره عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة فامتلأ قبره عليه نارا " الحديث ، ومنها حديث زيد بن أرقم أخرجه مسلم عنه " قال : لا أقول لكم إلا ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل وعذاب القبر " ، ومنها حديث أبي بكرة أخرجه النسائي عنه " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في إثر الصلاة : اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر " ، ومنها حديث عبد الرحمن بن حسنة أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه عنه في حديث مرفوع قال فيه : " أوما علمتم ما أصاب صاحب بني إسرائيل كان الرجل منهم إذا أصاب الشيء من البول قرضه بالمقراض فنهاهم عن ذلك فعذب في قبره " ، ومنها حديث عبد الله بن عمرو أخرجه النسائي عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللهم إني أعوذ بك من الكسل " الحديث ، وفيه : " وأعوذ بك من عذاب القبر " ، وروى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول حديث عبد الله بن عمرو " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر فتاني القبر فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أترد لنا عقولنا يا رسول الله ؟ قال : نعم كهيئتكم اليوم ، فقال عمر : في فيه الحجر " ، ومنها حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أخرجه البخاري والنسائي على ما يأتي ، ومنها حديث أم مبشر أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه قالت : " دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم قد ماتوا في الجاهلية قالت : فخرج فسمعته يقول : استعيذوا بالله من عذاب القبر ، قلت : يا رسول الله وللقبر عذاب ؟! قال : إنهم ليعذبون عذابا في قبورهم تسمعه البهائم " ، ومنها حديث أم خالد أخرجه البخاري والنسائي عنهما أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتعوذ من عذاب القبر .

                                                                                                                                                                                  وأما الجواب عن قوله تعالى : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أن ذلك وصف لأهل الجنة ، والضمير فيها للجنة أي : لا يذوقون أهل الجنة في الجنة الموت فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المساءلة وقبل دخول الجنة ، وأما قوله : ( إلا الموتة الأولى ) فهو تأكيد لعدم موتهم في الجنة على سبيل التعليق بالمحال كأنه قيل : لو أمكن ذوقهم الموتة الأولى لذاقوا في الجنة الموتة الأولى ، لكنه لا يمكن بلا شبهة فلا يتصور موتهم فيها وقد يقال : [ ص: 147 ] إلا الموتة الأولى للجنس لا للوحدة ، وإن كانت الصيغة صيغة الواحد نحو إن الإنسان لفي خسر وليس فيها نفي تعدد الموت لأن الجنس يتناول المتعدد أيضا بدليل أن الله تعالى أحيا كثيرا من الأموات في زمان موسى وعيسى وغيرهما ، وذلك يوجب تأويل الآية بما ذكرنا ، وأما الجواب عن قوله تعالى وما أنت بمسمع من في القبور فهو أن عدم إسماع أهل القبور لا يستلزم عدم إدراكهم ، وأما الجواب عن دليلهم العقلي فهو أن المصلوب لأبعد في الإحياء والمساءلة مع عدم المشاهدة كما في صاحب السكر فإنه حي مع أنا لا نشاهد حياته ، وكما في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه الصلاة والسلام وهو بين أظهر أصحابه مع ستره عنهم ، ولأبعد في رد الحياة إلى بعض أجزاء البدن فيختص بالإحياء والمساءلة والعذاب وإن لم يكن ذلك مشاهدا لنا ، وقال الصالحي من المعتزلة ، وابن جرير الطبري ، وطائفة من المتكلمين : يجوز التعذيب على الموتى من غير إحياء ، وهذا خروج عن المعقول لأن الجماد لا حس له فكيف يتصور تعذيبه ، وقال بعض المتكلمين : الآلام تجتمع في أجساد الموتى وتتضاعف من غير إحساس بها ، فإذا حشروا أحسوا بها دفعة واحدة ، وهذا إنكار للعذاب قبل الحشر وهو باطل بما قررناه . وفيه إثبات السؤال بالملكين اللذين بينا في حديث أبي هريرة الذي ذكرناه ، وأنكر الجبائي وابنه والبلخي تسمية الملكين بالمنكر والنكير وقالوا : إنما المنكر ما يصدر من الكافر عند تلجلجه إذا سئل ، والنكير إنما هو تقريع الملكين ، ويرد عليهم بالحديث الذي فسر فيه الملكان بهما كما ذكرناه . وفيه جواز لبس النعل لزائر القبور الماشي بين ظهرانيها ، وذهب أهل الظاهر إلى كراهة ذلك ، وبه قال يزيد بن زريع وأحمد بن حنبل ، وقال ابن حزم في ( المحلى ) : ولا يحل لأحد أن يمشي بين القبور بنعلين سبتيتين وهما اللذان لا شعر عليهما ، فإن كان فيهما شعر جاز ذلك وإن كان في أحدهما شعر والآخر بلا شعر جاز المشي فيهما ، وفي ( المغني ) : ويخلع النعال إذا دخل المقابر وهذا مستحب ، واحتج هؤلاء بحديث بشير بن الخصاصية " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يمشي بين القبور في نعلين فقال : ويحك يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك " رواه الطحاوي ، وأخرجه أبو داود وابن ماجه بأتم منه ، وأخرجه الحاكم وصححه ، وكذا صححه ابن حزم ، والخصاصية أمه واختلف في اسم أبيه فقيل : بشير بن نذير وقيل : ابن معبد بن شراحيل ، وقال الجمهور من العلماء بجواز ذلك وهو قول الحسن وابن سيرين والنخعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وجماهير الفقهاء من التابعين ومن بعدهم .

                                                                                                                                                                                  وأجيب عن حديث ابن الخصاصية بأنه إنما اعترض عليه بالخلع احتراما للمقابر ، وقيل لاختياله في مشيه ، وقال الطحاوي : إن أمره صلى الله عليه وسلم بالخلع لا لكون المشي بين القبور بالنعال مكروها ولكن لما رأى صلى الله عليه وسلم قذرا فيهما يقذر القبور أمر بالخلع ، وقال الخطابي : يشبه أن يكون إنما كره ذلك لأنه فعل أهل النعمة والسعة فأحب أن يكون دخول المقبرة على التواضع والخشوع ، وقال ابن الجوزي : ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريما ، ويدل على أنه أمره بالخلع احتراما للقبور لأنه نهى عن الاستناد والجلوس عليها ، وفيه ذهول عما ورد في بعض الأحاديث أن صاحب القبر كان يسأل ، فلما سمع صرير السبتيتين أصغى إليه ، فكاد يهلك لعدم جواب الملكين فقال له صلى الله عليه وسلم : " ألقهما لئلا تؤذي صاحب القبر " ذكره أبو عبد الله الترمذي .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : بعد فراغ الملكين من السؤال ما يكون الميت ؟ ( قلت ) : إن كان سعيدا كان روحه في الجنة ، وإن كان شقيا ففي سجين على صخرة على شفير جهنم في الأرض السابعة ، وعن ابن عباس : يكون قوم في برزخ ليسوا في جنة ولا نار ، ويدل عليه قصة أصحاب الأعراف ، والله أعلم ما يقال لمن يدخل من أصحاب الكبائر أكان يقال له نم صالحا أو يسكت عنه ، وقيل : إن أرواح السعداء تطلع على قبورها وأكثر ما يكون منها ليلة الجمعة ويومها وليلة السبت إلى طلوع الشمس ، فإنهم يعرفون أعمال الأحياء يسألون من مات من السعداء ما فعل فلان ؟ فإن ذكر خيرا قال : اللهم ثبته ، وإن كان غيره قال : اللهم راجع به ، وإن قيل لهم مات قيل : ألم يأتكم قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون سلك به غير طريقنا هوى به إلى أمه الهاوية ، وقيل : إنهم إذا كانوا على قبورهم يسمعون من يسلم عليهم فلو أذن لهم لردوا السلام .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية