الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وأما أحكام الالتقاط .

                                                                                                                                                                        فمنها : أن الذي يلزم الملتقط حفظ اللقيط ورعايته . فأما نفقته ، فلا تلزمه ، وسيأتي بيان محلها - إن شاء الله تعالى - . فإن عجز عن الحفظ لأمر عرض ، سلمه إلى القاضي ، وإن تبرم به مع القدرة ، فوجهان بناء على أن الشروع في فرض الكفاية هل يلزم الإتمام ويصير الشارع متعينا ؟ وموضع ذكره كتاب السير ، والأصح هنا : أن له التسليم إلى القاضي ، واختاره ابن كج ، ولا خلاف أنه يحرم عليه نبذه ورده إلى ما كان . واعلم أنهم يستعملون في هذا الباب لفظ الحضانة ، والمراد منه الحفظ والتربية ، لا الأعمال المفصلة في الإجارة ، لأن فيها مشقة ومؤنة كثيرة ، فكيف تلزم من لا تلزمه النفقة ؟ وقد أوضحه البغوي فقال : نفقة اللقيط وحضانته في ماله إن كان له مال ، ووظيفة الملتقط حفظه وحفظ ماله .

                                                                                                                                                                        [ ص: 422 ] فرع

                                                                                                                                                                        الملتقط البلدي ، إذا وجد لقيطا في بلدته ، أقر في يده ، وليس له نقله إلى البادية إن أراد الانتقال [ إليها ] ، بل ينتزع منه لمعنيين . أحدهما : أن عيش البادية خشن ، ويفوته العلم بالدين والصنعة . والثاني : تعريض نسبه للضياع . فلو كان الموضع المنتقل إليه من البادية في بياض البلدة يسهل عليه تحصيل ما يراد منها ، فعلى المعنى الأول : لا يمنع . وعلى الثاني : إن كان أهل البلد يختلطون بهم ، فكذلك ، وإلا ، منع . وكما ليس له نقله إلى البادية ، فليس له نقله إلى قرية . ولو أراد نقله إلى بلدة أخرى ، أو التقطه غريب في تلك البلدة ، وأراد نقله إلى بلدته ، فعلى المعنى الأول : لا يمنع ، وعلى الثاني : يمنع وينتزع اللقيط منه . والأول هو المنصوص ، وبه قال الجمهور . قال المتولي : ولا فرق بين سفر النقلة والتجارة ، والزيارة . ولو وجد القروي لقيطا في قريته أو قرية أخرى أو [ في ] بلدة ، يقاس بما ذكرناه في البلدي . ولو وجد الحضري اللقيط في بادية ، نظر ، إن كان في مهلكة ، فلا بد من نقله ، وللملتقط أن يذهب به إلى مقصده . ومن قال في اللقطة : يعرفها في أقرب البلاد ، يشبه أن يقول : لا يذهب به إلى مقصده رعاية للنسب . وإن كان في حلة أو قبيلة ، فله نقله إلى البلدة والقرية على المذهب ، وبه قطع الجمهور . وعن القاضي حسين : أنه على وجهين بناء على المعنيين . ولو أقام هناك ، أقر في يده قطعا . أما البدوي ، فإذا التقط في قرية ، أو بلدة ، وأراد المقام بها أقر في يده . وإن أراد نقله إلى البادية ، أو قرية ، أو بلدة أخرى ، فعلى ما ذكرناه في الحضري . وإن وجده في حلة ، أو قبيلة في البادية ، فإن كان من أهل حلة مقيمين في موضع راتب ، أقر في يده ، وإن كان ممن ينتقلون من موضع إلى موضع منتجعين ، ففي منعه وجهان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 423 ] قلت : أصحهما لا منع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو ازدحم على لقيط في البلدة أو القرية مقيم بها وظاعن ، قال الشافعي - رضي الله عنه - في " المختصر " : المقيم أولى . قال الأصحاب : إن كان الظاعن يظعن إلى البادية ، أو إلى بلدة أخرى ، وقلنا : ليس للمنفرد الخروج به إلى بلدة ، فالمقيم أولى ، وإن جوزناه له ذلك ، فهما سواء . ولو اجتمع على لقيط في القرية قروي مقيم بها وبلدي ، قال ابن كج : القروي أولى ، وهذا يخرج على منع النقل من بلد إلى بلد . فإن جوزنا ، وجب أن يقال : هما سواء .

                                                                                                                                                                        قلت : المختار الجزم بتقديم القروي مطلقا ، كما قاله ابن كج ، وإنما نجوز النقل إذا لم يعارضه معارض . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو اجتمع حضري وبدوي على لقيط في البادية ، نظر ، إن وجد في حلة أو قبيلة ، والبدوي في موضع راتب ، فهما سواء . وقال ابن كج : البدوي أولى إن كان مقيما فيهم . وإن كان منتجعا ، فإن قلنا : يقر في يده لو كان منفردا ، فهما سواء ، وإلا ، فالحضري أولى . وإن وجد في مهلكة ، قال ابن كج : الحضري أولى . وقياس قوله : تقديم البدوي أو من كان مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط ، أقرب .

                                                                                                                                                                        [ ص: 424 ] فرع

                                                                                                                                                                        اللقيط قد يكون له مال يستحقه بكونه لقيطا أو بغيره ، فالأول : كالوقف على اللقطاء والوصية لهم ، والثاني : كالوصية لهذا اللقيط والهبة له والوقف عليه ، ويقبل له القاضي من هذا ما يحتاج إلى القبول . ومن الأموال التي يستحقها ، ما يوجد تحت يده واختصاصه ، فإن للصغير يدا واختصاصا كالبالغ ، والأصل الحرية ما لم يعرف غيرها ، وذلك كثيابه التي هو لابسها ، والمفروشة تحته ، والملفوفة عليه ، وما غطي به من لحاف وغيره ، وما شد عليه ، وعلى ثوبه ، أو جعل في جيبه من حلي ، ودراهم ، وغيرها ، وكذا الدابة التي عنانها بيده ، أو هي مشدودة في وسطه ، أو ثيابه ، والمهد الذي هو فيه ، وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه . وفي التي تحته ، وجه ضعيف . ولو كان في خيمة أو دار ليس فيهما غيره ، فهما له . وعن " الحاوي " وجهان في " البستان " .

                                                                                                                                                                        قلت : وطرد صاحب " المستظهري " الوجهين في الضيعة وهو بعيد ، وينبغي القطع بأنه لا يحكم له بها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو كان بقربه ثياب وأمتعة موضوعة ، أو دابة ، فوجهان . أصحهما : لا تجعل له كما لو كانت بعيدة . والثاني : بلى ، لأن هذا يثبت اليد والاختصاص ، ألا ترى أن الأمتعة الموضوعة في السوق بقرب الشخص تجعل له . والمال المدفون تحت اللقيط لا يجعل له ، لأنه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل ، بخلاف ما يلف عليه ويوضع بقربه . فلو وجدت معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها : إن تحته دفينا له ، فوجهان . أصحهما عند الغزالي : أنه له بقرينة المكتوب . والثاني : لا أثر للرقعة ، وهو الموافق لكلام [ ص: 425 ] الأكثرين . قال الإمام : ومن عول على الرقعة ليت شعري ما يقول لو أرشدت الرقعة إلى دفين بالبعد منه ، أو دابة مربوطة بالبعد منه .

                                                                                                                                                                        قلت : مقتضاه أن نجعله للقيط ، فإن الاعتماد إنما هو على الرقعة ، لا على كونه تحته . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو كانت دابة مشدودة باللقيط وعليها راكب ، قال ابن كج : هي بينهما . ثم إن ما سوى الدفين من [ هذه ] الأموال إذا لم يجعل للقيط ، فهو لقطة ، والدفين قد يكون لقطة وقد يكون ركازا كما سبق .

                                                                                                                                                                        [ فرع ]

                                                                                                                                                                        إذا عرف للقيط مال ، فنفقته في ماله . فإن لم يعرف ، فقولان . أظهرهما : ينفق عليه الإمام من بيت المال من سهم المصالح . والثاني : يستقرض له الإمام من بيت المال أو بعض الناس . فإن لم يكن في بيت المال شيء ولم يقرض أحد ، جمع الإمام أهل الثروة من البلد ، وقسط عليهم نفقته ، وجعل نفسه منهم . ثم إن بان رقيقا ، رجعوا على سيده . وإن بان حرا ، أو له مال أو قريب ، فالرجوع عليه . وإن بان حرا لا قريب له ، ولا مال ولا كسب ، قضى الإمام حقهم من سهم الفقراء ، أو المساكين ، أو الغارمين كما يراه .

                                                                                                                                                                        قلت : اعتباره القريب غريب ، قل من ذكره ، وهو ضعيف ، فإن نفقة القريب تسقط بمضي الزمان . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 426 ] أما إذا قلنا بالأظهر : إنه ينفق من بيت المال ، فإن لم يكن فيه مال ، أو كان هناك ما هو أهم ، كسد ثغر يعظم ضرره لو ترك ، قام المسلمون بكفايته ، ولم يجز لهم تضييعه . ثم هل طريقه طريق النفقة ، أم طريق القرض ؟ قولان . أظهرهما والذي يقتضي كلام العراقيين وغيرهم ترجيحه : أنه طريق القرض . فإن قلنا : طريق النفقة ، فقام به بعضهم ، اندفع الحرج عن الباقين . وإن امتنعوا ، أثموا كلهم ، وطالبهم الإمام . فإن أصروا ، قاتلهم ، وعند التعذر يقترض على بيت المال وينفق عليه ، وإن قلنا : طريق القرض يثبت الرجوع . وعلى هذا ، إن تيسر الاقتراض ، فذاك ، وإلا ، قسط الإمام نفقته على الموسرين من أهل البلد [ ثم ] إن ظهر عبدا ، فالرجوع على سيده . وإن ظهر له مال أو اكتسب ، فالرجوع عليه . فإن لم يكن له شيء ، قضي من سهم المساكين أو الغارمين . وإن حصل في بيت المال مال قبل بلوغه ويساره ، قضي منه . وإن حصل في بيت المال ، أو حصل للقيط مال دفعة واحدة ، قضي من مال اللقيط كما لو كان له مال وفي بيت المال مال . ولم يتعرض الأصحاب لطرد الخلاف ، في أنه إنفاق أو إقراض ، إذا كان في بيت المال مال وقلنا : نفقته منه ، والقياس طرده .

                                                                                                                                                                        قلت : ظاهر كلامهم ، أنه إنفاق ، فلا رجوع لبيت المال قطعا ، وهذا هو المختار الظاهر والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وحيث قلنا : يقسطها الإمام على الأغنياء ، فذاك عند إمكان الاستيعاب . فإن كثروا أو تعذر التوزيع عليهم ، قال الإمام : يضربها السلطان على من يراه منهم باجتهاده . فإن استووا في اجتهاد ، تخير ، والمراد أغنياء تلك البلدة أو القرية .

                                                                                                                                                                        [ ص: 427 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية