الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  5797 [ ص: 185 ] 172 - حدثنا مسدد، حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه، ومعهن أم سليم فقال: ويحك يا أنجشة، رويدك سوقا بالقوارير، قال أبو قلابة: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة لو تكلم بها بعضكم لعبتموها عليه. قوله: سوقك بالقوارير.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن فيه حدو أنجشة بالنساء. وإسماعيل هو ابن علية، وأيوب هو السختياني. وأبو قلابة، بكسر القاف، عبد الله بن زيد الجرمي.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه مسلم في الفضائل، عن أبي الربيع الزهراني وغيره، وأخرجه النسائي في (اليوم والليلة) عن قتيبة به.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على بعض نسائه" في رواية حماد بن زيد على ما يأتي، عن أيوب" أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان في سفر"، وفي رواية شعبة، عن ثابت، عن أنس: " كان في منزله فحدا الحادي"، وأخرجه النسائي والإسماعيلي من طريق شعبة بلفظ: " وكان معهم سائق وحاد"، وفي رواية أبي داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله تعالى عنه: " كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال"، وفي رواية قتادة، عن أنس: " كان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حاد يقال له: أنجشة، وكان حسن الصوت"، وفي رواية وهيب: " وأنجشة غلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسوق بهن"، وفي رواية حميد، عن أنس: " فاشتد بهن في السياقة"، أخرجها أحمد، عن ابن أبي عدي عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ومعهن أم سليم" بضم السين وفتح اللام، وهي أم أنس رضي الله تعالى عنه، وفي رواية وهيب، عن أيوب كما سيأتي: " كانت أم سليم في الثقل"، وفي رواية سليمان التيمي، عن أنس: " كانت أم سليم مع نساء النبي صلى الله عليه وسلم"، أخرجه مسلم من طريق يزيد بن زريع. وحكى عياض أن في رواية السمرقندي في مسلم: أم سلمة بدل أم سليم، قيل: إنه تصحيف; لأن الروايات تظاهرت بأنها أم سليم.

                                                                                                                                                                                  قوله: " ويحك" قد مر غير مرة أن كلمة "ويحك" كلمة ترحم وتوجع، يقال لمن يقع في أمر لا يستحقه، وانتصابه على المصدرية، وقد ترفع، وتضاف ولا تضاف، يقال: ويح زيد، وويحا له، وويح له.

                                                                                                                                                                                  قوله: " يا أنجشة"، بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة، ثم بهاء التأنيث؛ ووقع في رواية وهيب: "يا أنجش"، بالترخيم. قال البلاذري: كان أنجشة حبشيا، يكنى أبا مارية، وفي التوضيح: أنجشة غلام أسود للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكروه في الصحابة. قلت: ذكره أبو عمر في (الاستيعاب): أنجشة العبد الأسود، كان يسوق، أو يقود بنساء النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عام حجة الوداع، وكان حسن الصوت، وكان إذا حدا اعتنقت الإبل، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " يا أنجشة، رويدك بالقوارير". وأخرج الطبراني من حديث واثلة أنه كان ممن نفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المخنثين.

                                                                                                                                                                                  قوله: " رويدك" كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية سليمان التيمي: " رويدا"، وفي رواية شعبة: " أرفق"، ووقع في رواية حميد: " رويدك أرفق" جمع بينهما، ووقع في رواية عن حميد: "كذاك سوقك"، وهي بمعنى كفاك.

                                                                                                                                                                                  وقال عياض: "رويدا" منصوب على أنه صفة لمحذوف؛ أي: سق سوقا رويدا، أو احد حدوا رويدا. أو على المصدر؛ أي: أرود رويدا، مثل: أرفق رفقا. أو على الحال؛ أي: سر رويدا. و"رويدك" منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر؛ أي: الزم رفقك. وقال الراغب: رويدا من: أرود يرود؛ كأمهل يمهل، وزنه ومعناه، وهو من الرود، بفتح أوله وسكون ثانيه، وهو الترود في طلب الشيء برفق، راد وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة ترود؛ إذا مشت على هينتها.

                                                                                                                                                                                  وقال الرامهرمزي: "رويدا" تصغير رود، وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في معنى المهلة إلا مصغرا. قال: وذكر صاحب (العين) أنه إذا أريد به معنى الترديد في الوعيد لم ينون. قوله: " سوقك" كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية حميد: " سيرك" وهو بالنصب على نزع الخافض؛ أي: أرفق في سوقك.

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي: "رويد"؛ أي: أرفق، و"سوقك" مفعول به. ووقع في رواية مسلم: " سوقا"، وقيل: "رويدك" إما مصدر والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل والكاف حرف خطاب، و"سوقك" بالنصب على الوجهين، والمراد به: حدوك، إطلاقا لاسم المسبب على السبب. وقال ابن مالك: "رويدك" اسم فعل بمعنى أرود؛ أي أمهل، والكاف المتصلة به حرف الخطاب، وفتحة داله بنائية، ولك أن تجعل [ ص: 186 ] "رويدك" مصدرا مضافا إلى الكاف، ناصبها "سوقك"، وفتحة داله على هذا إعرابية. قوله: " بالقوارير" جمع قارورة؛ من الزجاج، سميت بها لاستقرار الشراب فيها. وفي رواية هشام، عن قتادة: " رويدك سوقك، ولا تكسر القوارير"، وزاد حماد في روايته، عن أيوب: "قال أبو قلابة: يعني النساء". وفي رواية همام، عن قتادة: " لا تكسر القوارير" قال قتادة: يعني ضعفة النساء. وقال ابن الأثير: شبه النساء بالقوارير من الزجاج; لأنه يسرع إليها الكسر، وكان أنجشة يحدو، وينشد القريض والرجز، فلم يأمن أن يصيبهن، أو يقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكف عن ذلك، وفي المثل: (الغناء رقية الزنا)، وقيل: أراد أن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي، واشتدت فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك; لأن النساء يضعفن من شدة الحركة.

                                                                                                                                                                                  وقال الرامهرمزي: كنى عن النساء بالقوارير; لرقتهن وضعفهن عن الحركة، والنساء يشبهن بالقوارير في الرقة واللطافة وضعف البنية، وقيل: سقهن كسوقك القوارير، لو كانت محمولة على الإبل، وقيل: شبههن بالقوارير؛ لسرعة انقلابهن عن الرضا، وقلة دوامهن على الوفاء؛ كالقوارير يسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر. وقال الطيبي: هي استعارة; لأن المشبه به غير مذكور، والقرينة حالية لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال أبو قلابة" هو الراوي عن أنس، " تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة وهي سوق القوارير". قوله: " لو تكلم بها"؛ أي: بهذه الكلمة بعضكم لعبتموها عليه؛ أي: على الذي تكلم بها.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: فإن قلت: هذه استعارة لطيفة بليغة فلم تعاب؟ قلت: لعله نظر إلى أن شرط الاستعارة أن يكون وجه الشبه جليا بين الأقوام، وليس بين القارورة والمرأة وجه الشبه ظاهرا، والحق أنه كلام في غاية الحسن، والسلامة عن العيوب ولا يلزم في الاستعارة أن يكون جلاء الوجه من حيث ذاتهما، بل يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الجاعلة للوجه جليا ظاهرا، كما في المبحث، ويحتمل أن يكون قصد أبي قلابة أن هذه الاستعارة تحسن من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة، ولو صدرت ممن لا بلاغة له لعبتموها، وهذا هو اللائق بمنصب أبي قلابة، والله أعلم.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية