الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( جـ ) صور من الوساطة الطرقية من خلال كتاب الإبريز

يشكل كتاب الإبريز، نموذجا للكتب الطرقية التي سادت في عصور الانحطاط، والتي تركز على ذكر كرامات الشيخ، وعجائبه، وخوارقه، كما تفيض في ذكر (منافعه) للناس، فيما يتعلق بالإشفاء، وكشف الكرب، والضوائق، ونحوها، وكذا ما على المريد من الخدمة للشيخ، والسمع والطاعة، في المنشط والمكره، ولو رأى من الشيخ ما تنكره الحاسة الشرعية، فإن عليه التسليم والتفويض، وإلا حرم إرث السر الذي به قد يبلغ مقام القطبية ، بعد وفاة الشيخ.

و (الإبريز) ، حسب ما ذكر في مقدمته، هـو من إملاء عبد العزيز الدباغ الفاسي ، الذي عاش بفاس ، خلال القرن الحادي عشر الهجري، على مريده أحمد بن المبارك (الفقيه) .. وصيغة العنوان الموضوعة على الطبعة التي بين أيدينا، هـي كما يلي: (الإبريز الذي تلقاه نجم العرفان، الحافظ، سيدي أحمد بن المبارك، عن قطب الواصلين، سيدي عبد العزيز الدباغ رضي الله عنه ) .. والمريد أحمد بن المبارك، يحكي عن شيخه، أنه لم يكن قارئا، ولا كاتبا، ولكنه كان أميا، ولما (فتح) الله عليه بالكمال، والفيض، والكشف، صار من العارفين بالعلم اللدني، فصار يفتي في قضايا الناس الدينية، والدنيوية، ويحل مشكلات العلم المعقدة، في العقائد، والأحاديث المشكلة، ونحوها.. وكان المريد طالما يردد بين الفينة والأخرى عبارات التقديس، والتبجيل للشيخ في بداية كل قصة من روايته، عن كراماته وكشوفاته، كما في قوله على سبيل المثال: " ومما وقع لي مع شيخنا الإمام غوث [ ص: 86 ] سيدي ومولاي عبد العزيز، نفعني الله به... [1] " .. وموضوعات الكتاب كلها، من البداية إلى النهاية، ترسيخ للوساطة التربوية ، عبر طقوس الفكر الطرقي، وربط الناس بعقائد شركية خطيرة، شكلت مرجعية تعبدية، ملاذية، لكثير من الناس خلال عصور الانحطاط، فساهمت في تكريس الواقع التواكلي للأمة.

ومن أهم الأفكار الوساطية، المبثوثة في (الإبريز) ، فكرة (ديوان الصالحين) ، التي اشتهرت في تلك المرحلة، وشكلت عقيدة صوفية لكثير من المسلمين، تؤطر عباداتهم، وتوسلهم إلى الله عند الحاجة، بواسطة الأقطاب السبعة، أو الرجال السبعة (المتصرفين) في الكون بأمر الغوث، أو القطب الأكبر.. والفكرة هـذه، شاعت بتلك المرحلة، وما تزال آثارها إلى اليوم، في فكر بعض الناس! وقد انتقدها الحجوي رحمه الله أيما انتقاد [2] وصورة (ديوان الصالحين) ، نسوقها إليك أيها القارئ الكريم، من كتاب الإبريز بنصها، مع حذف بعض الاستطرادات، فتأملها؛ لتعرف مدى ما وصلت إليه فكرة القطبية ، بعدما سكنت إحياء الغزالي رحمه الله، وصارت أمرا (مشروعا) .

يقول راوي الإبريز: " سمعت الشيخ، رضي الله عنه ، يقول: الديوان يكون بغار حراء ... فيجلس الغوث خارج الغار، ومكة خلف كتفه الأيمن، والمدينة أمام ركبته اليسرى، وأربعة أقطاب عن يمينه، وهم [ ص: 87 ] مالكية على مذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه ، وثلاثة أقطاب عن يساره: واحد من كل مذهب من المذاهب الثلاثة، والوكيل أمامه، ويسمى قاضي الديوان، وهو في هـذا الوقت مالكي أيضا... ومع الوكيل يتكلم الغوث، ولذلك سمي وكيلا، لأنه ينوب في الكلام عن جميع من في الديوان. قال والتصرف للأقطاب السبعة، على أمر الغوث، وكل واحد من الأقطاب السبعة ، تحته عدد مخصوص يتصرفون تحته، والصفوف الستة من وراء الوكيل... قال رضي الله عنه : ويحضره بعض الكمل من الأموات، ويكونون في الصفوف مع الأحياء... قال وتحضره الملائكة، وهم من وراء الصفوف، ويحضره أيضا الجن الكمل... قال رضي الله عنه : وفائدة حضور الملائكة والجن، أن الأولياء يتصرفون في أمور تطيق ذواتهم الوصول إليها، وفي أمور أخرى لا تطيق ذواتهم الوصول إليها، فيستعينون بالملائكة والجن... قال: وفي بعض الأحيان، يحضره النبي صلى الله عليه وسلم ... وكلامه صلى الله عليه وسلم مع الغوث ، قال: وكذلك الغوث، إذا غاب النبي صلى الله عليه وسلم ، تكون له أنوار خارقة، حتى لا يستطيع أهل الديوان أن يقربوا منه، بل يجلسون منه على بعد. فالأمر الذي ينزل من عند الله تعالى لا تطيقه إلا ذات النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا خرج من عنده صلى الله عليه وسلم ، فلا تطيقه ذات إلا ذات الغوث!، ومن ذات الغوث يتفرق على الأقطاب السبعة، ومن الأقطاب السبعة يتفرق على أهل الديوان.. وأما ساعة الديوان... فهي الساعة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنها هـي ساعة الاستجابة من ثلث الليل الأخير " [3] . [ ص: 88 ]

قال الراوي: " سمعته رضي الله عنه يقول: إن لغة أهل الديوان، رضي الله عنهم ، هـي السريانية، لاختصارها وجمعها المعاني الكثيرة... وسمعته رضي الله عنه ، يقول: ليس كل من حضر الديوان من الأولياء يقدر على النظر في اللوح المحفوظ! بل منهم من يقدر على النظر فيه!! ومنهم من يتوجه إليه ببصيرته!... وسمعته رضي الله عنه يقول: إن الصغير من الأولياء، يحضره بذاته، وأما الكبير، فلا تحجير عليه. يشير صلى الله عليه وسلم إلى أن الصغير إذا حضره غاب عن محله وداره، فلا يوجد في بلدته أصلا؛ لأنه يذهب إليه بذاته، وأما الكبير، فإنه يدبر على رأسه فيحضره، ولا يغيب عن داره، لأن الكبير يقدر على التطور على ما يشاء من الصور، ولكمال روحه تدبر له إن شاء ثلاثمائة وستة وستون ذاتا! [4] ، بل سمعت الشيخ رضي الله عنه مرة، وأنا معه خارج باب الحبشة ، أحد أبواب فاس حرصها (الله) ، يقول: إيش هـو الديوان والأولياء، الذين يقيمونه كلهم في صدري!، وسمعته مرة أخرى: السماوات والأرضون بالنسبة إلي كالموزونة [5] في فلاة من الأرض!... هـذا بحر لا قرار له، ونحن على ساحل التمني، نغترف من بحور الشيخ، رضي الله عنه ، على قدر الإمكان!! " [6] ثم يستطرد الدباغ بعد ذلك، في وظائف أهل الديوان من التصرف في الأكوان والعوالم والأقدار حتى يقول كلاما لا يمكن لسامعه إلا أن [ ص: 89 ] يلحقه بسلفه الحلاج ! بل إن هـذه التفصيلات أغرب من مقالات الحلاج، لأنها غير قابلة للتأويل.

إن هـذا ليس غريبا في فكر عصور الانحطاط، ولكن الغريب حقا، أن يكون بعض الكتب بالذات دون غيرها، مصدرا لبعض المفكرين الإسلاميين المعاصرين، يستلهم منها مناهجه وأفكاره التربوية!

ولقد كانت شخصية الدباغ ، هـي محور الأسرار، والأذكار، والتربية، والمقامات، والأحوال، خلال الإبريز كله. فهو الوسيط الوحيد الذي يمكن للسالك المريد، أن يصل إلى عالم الكشف عبر ذاته. أي ذات الشيخ. فهو وحده صاحب الكرامات المتفردة، والعجائب الغريبة، فقد خصص فصلا كاملا للحديث عن عجائبه وخوارقه، من إخباره بما كان، وما سيكون من حوادث، ووقائع، سواء منها الهين، والجليل العظيم، حتى ذكر الراوي كشوفات شيخه عن بعض خواصه في أهله، وأهل مريدين آخرين، مما يستحي المرء عن قراءته، أو نقله، أو ذكره. فيذكر من (كراماته) أشياء مما يوجب في ميزان الشرع الحد، أو التعزير! [7] قال راوي الإبريز: " ومنها أني لما أردت أن أتزوج الزيرارية، وكنت غير عارف بصفتها، فوصفها لي بما وجدتها عليه، وذكر لي فيها أمورا لا يعلمها إلا الله (كذا!) ، ثم لما عزمت على الدخول قال لي: " أنا ليلة الدخول أكون عندكم، فقلت له: وبم أعلم ذلك يا سيدي؟ فقال لي: [ ص: 90 ] أن أفعل لك علامة. ثم لما اجتمعت بالزوجة، وكلمتها بعض الكلام، وإذا بالدم يسيل من خياشيمها، فقلت لها: وما بالك؟ فقالت: أنت ضربتني على أنفي، فسكت عنها، وعلمت أنه فعل سيدنا الإمام!! " [8] هكذا كانت الوساطة الطرقية ، تصنع المريدين، وتربي الأتباع، وكأنها تمارس عليهم نوعا من غسيل الدماغ، أو ما عبر عنه في الفكر المعاصر، باغتيال العقل، إشارة إلى عملية قتل الحاسة النقدية في الفكر والمجتمع، وقد كانت الأدبيات الطرقية، التي ساهمت في صناعة أزمة الواقع المعاصر تفصل في ما كان يسمى (بآداب المريد والطريق) ، حتى تخرج مجموعة من المريدين، ممن يدعون إلى التسليم المطلق للشيخ في كل ما يقول ويفعل، على أن يكون المريد الحقيقي، هـو أول من يقلد الشيخ، ويتقمص شخصيته، إلى درجة الفناء التام.

والمنطق الطرقي، ينبني على تأويل معاصي الشيخ، بأنها فوائد عظيمة للناس، إلا أنهم لا يدركون مغزاها، لكثافة الحجب بينهم وبين أسرار الله، التي تفيض على ذات الشيخ، فتبدو لعامة الناس معاصي.. فلابد إذن من قيام الوساطة الطرقية، بإلغاء العقل لدى المريد، حتى لا يرى في شيخه إلا الحق، ولا يرى الكون كله بعد ذلك، إلا من خلال ذات الشيخ! حتى إذا صدقت نيته فيه أمدا طويلا، ورث سره، وانكشف له فهم ما أشكل عليه، مما كان يبدو معاصي، من تصرفات [ ص: 91 ] الشيخ! وفي ذلك يقول الدباغ : " كان لبعض العارفين بالله عز وجل ، مريد صادق، وكان هـو وارث سره، فأشهده الله تعالى من شيخه أمورا كثيرة منكرة، ومع ذلك فلم يتحرك له وسواس، فلما مات شيخه، وفتح الله عليه، شاهد تلك الأمور، وعلم أن الصواب مع الشيخ فيها، وليس فيها ما ينكر شرعا، إلا أنها اشتبهت عليه " [9] وقد رأى المريد فعلا من شيخه أمورا عظيمة مما يوجب الحد والتعزير، مثل الزنا، وقتل النفس المحرمة، وما شابه ذلك، وما دونه، كما ذكر الدباغ بعد ذلك في عدة صفحات.. لكن المريد كذب عينيه، وخطأ عقله، وصدق الشيخ، مما ورثه سر المشيخة، فرأى بعد الكشف تأويلات كل أفعال الشيخ، وكراماته.. وهكذا تفلح الوساطة الطرقية ، في إقرار الفاحشة في المجتمع، وترسيخها في أذهان الناس على أنها إذا تعلقت بالوسيط، فهي من المقامات والكرامات! فسبحان الله عز وجل ، عما يقولون، وما يصفون.

وما زال الفكر الطرقي، يمثل مصدرا مهما من مصادر التدين الجماهيري في بعض مناطق العالم الإسلامي.

ولقد دار حوار بيني، وبين أحد الدعاة المعاصرين، فقادنا الكلام إلى الحديث عن مشكلة المصدرية في العمل التربوي، فذكرنا التربية الطرقية، وكتاب الإبريز منها على الخصوص، فسأله صاحب لي: هـل قرأ الكتاب المذكور؟ فقال - وهو أستاذ للفيزياء، التي تعنى بالتحليل [ ص: 92 ] والتعليل العقلي - " لقد اشتريته، فقرأت منه شيئا، فلما وجدته أعلى مني، تركته " ، وكأنه يشير إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، في التعامل مع المتشابهات: ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) [10] ، فعجبت، كيف يصل اغتيال العقل، وغسيل الدماغ، بواسطة التأثير الوساطي، إلى تعطيل حاسة النقد، لدى عقل كون تكوينا فيزيائيا! فيرى أن كتاب الإبريز يتحدث عن مقام إيماني أعلى من أن يبلغه شاب في بداية السلوك! وهو نوع من الهروب، من إدانه ما قرأه فيه من مخالفات صريحة؛ لأن الوساطة التي صاغت تدينه ركبته على سكة الاستهلاك، وإماتة العقلية النقدية.

وهناك جهاز من المفاهيم الوساطية، ذات المصدر الطرقي، ما زال يتردد في المناهج التربوية، بصورة أو بأخرى لدى بعض العاملين للإسلام.. ويمكن اجمال تلك المفاهيم، من خلال شرح المصطلحات التالية في سياقها الصوفي والطرقي ، كما تم إنتاجها، أو تطويرها في عصور الانحطاط، وهي كما يلي:

الشيخ : لقد كان لمصطلح (الشيخ) في الفكر الطرقي، دلالة شاملة لأكثر المعاني، التي ذكرت للولي الذي بلغ أعلى المقامات منذ تبلور التصوف في صورته المصطلحية بعد القرن الثالث الهجري.. فالشيخ إذن هـو رأس الطريقة، وهو قطبها وغوثها، وهو واضع الأوراد التربوية، والموجه الوحيد للعملية التربوية، والمرشد الفريد للسير إلى الله، [ ص: 93 ] فلا قطع في أي أمر من أمور الدنيا والآخرة عند المريد، إلا بإذنه!، فهو رأس الكمل من الأحياء، جنا، وإنسا -كما تبين في كتاب الإبريز- حتى إذا مات، صعب العثور على من يخلفه، أو استحال، على نحو ما يروى من كرامات غوث إحدى الطرق الصوفية، أنه لما حضرته الوفاة، قال لمريديه: لا يؤم الناس في صلاة جنازتي أحد! فإن من يؤمهم، سيخرج لكم من جهة القبلة! حتى إذا مات، واصطف الناس في جنازته، خرج عليهم من الجهة المذكورة، رجل بجلابيبه البيضاء، فأمهم على جنازة الغوث، ولما سلم قال الناس: " سبحان من بعث الأرواح، لتصلي على أجسادها! " .. وهكذا يبلغ الغوث مقاما يستحيل الوصول إليه بعده، حتى لا يوجد من في مقامه ليؤم الناس على جنازته، فيؤمهم هـو على نفسه!

ورغم تراجع التنظيمات الطرقية، عما كانت عليه من قبل، من استيعاب واسع للجماهير، إلا أن معنى المشيخة ، والقطبية ، ما زال ساريا في مناهج مؤسسات العمل الإسلامي المعاصرة، بصورة أو بأخرى، من تفرد بالتوجيه والتخطيط، وشيء من الاستبداد بالرأي، على أنه الرأي الأصوب! بل ما زالت المشيخة، بالمعنى الطرقي المحض، تمارس كوساطة تربوية وتخطيطية، في تسيير بعض مؤسسات العمل الإسلامي، وتوجيهها!

المـريـد : وهو التلميذ المتربي، المبتدئ في السلوك إلى الله، ولعل هـذا المصطلح كان يطلق في بداية نشأة التصوف ، على كل سالك، استلهاما لقوله تعالى: ( يريدون وجهه ) [الكهف:28]. وذلك ما نستشفه من نصوص التصوف القديمة، مما نقل الغزالي وغيره. [ ص: 94 ]

وبعد ظهور معنى المشيخة الطرقية ، في القرن السادس الهجري وما بعده، صار ( المريد ) يطلق فقط على التلميذ دون الشيخ، أو على المتربي على العموم، لا على شيخ التربية، وهو المعنى الذي ما زال ساريا لدى أكثر الجماعات الطرقية إلى اليوم.. وقد سبق أن أشرنا إلى المضمون الوساطي لمصطلح المريد، في العملية التربوية، إزاء مصطلح ( الشيخ ) إذ لا يمثل إلا مستهلكا لكل ما ينتجه الشيخ، حقا كان أم باطلا.. كما أن (الإرادة) لا تعني في هـذا السياق شيئا غير إعدام الإرادة! ولذلك قيل: المريد مع شيخه كالميت بين يدي مغسله.

السـند الروحـي : وهو سلسلة الشيوخ المتصلة، التي تشكل مرجعية الشيخ، ومشروعية الوراثة لأسرار الطريق والتربية، وهي سلاسل طرقية مشتهرة، يزعم أهل التصوف أنها تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه عليه الصلاة والسلام ، خص بعض الصحابة فقط، بأسرار الطريق، فكانوا شيوخا للتربية بعده، دون غيرهم من باقي الصحابة، وبذلك استمر سر التصوف في الأمة عبر أسانيد محددة، محدودة، تلتقي عليها أغلب طرق الصوفية .

وقد كان الناس في عصور الانحطاط، كما وصف الحجوي مما سبق، يتهافتون على الأخذ عن شيخ الطريقة في عصرهم، ولو كانوا من العلماء، والمتعلمين؛ ليفوزوا ببركة السند الروحي، وشرف الانتساب إلى سلك القوم، شيخا عن شيخ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان السند لمن يعتقد به، أمرا ضاغطا ليقبل وساطة الشيخ مهما كانت شطحاته وزلاته! [ ص: 95 ]

الصحبـة : والصحبة، مفهوم تبلور في المرحلة الطرقية للتصوف بصورة مختلفة عن مغزاه التربوي الأصيل، الذي لا يخرج عن أهمية المربي، وصحبة المعلم للتعلم، كما كان الصحاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل صارت المحبة تعني ضرورة الدخول تحت هـيمنة ذات الشيخ، والسير تحت عينه، وبصره، والتوجه بواسطة إلهاماته، وفراسته، حتى تنقل الأسرار التي في ذاته إلى ذات المريد.. ولا طريق إلى الله إلا عبر (الصحبة) ، بهذا المعنى؛ فيتحتم إذن على كل راغب في التدين، كما تراه الأدبيات الطرقية، أن يمر عبر مضيق الصحبة، وإلا فلا سبيل إلى الترقي بمقامات الإيمان!

الـورد : هـو مجموع الأذكار التي يقولها العبد في اليوم والليلة، كقراءة سور وآيات بعينها، وأدعية معلومة مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، هـذا على عهد السلف من القرون الثلاثة الأولى. لكن المصطلح اتخذ بعدا آخر خلال القرن الرابع والخامس حيث صار الورد يتضمن أذكارا، وقراءات بصور (اجتهادية) ، غير مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل ربما أسندت إلى قطب من الأقطاب، على أنه رأى في المنام النبي صلى الله عليه وسلم ، يعلمه ذلك، أو أن الخضر أخبره بذلك، كما نجد في كثير من المواطن، من إحياء الغزالي [11] ثم صار الورد بعد ذلك مجموعة من الأذكار، التي وضعها شيخ الطريقة نفسه لمريديه، بصيغ قد تقرب من الصيغ الشرعية، وقد تبعد إلى درجة التعارض والتناقض مع بعض النصوص القرآنية، والحديثية الصحيحة الصريحة، بل ربما أعطيت بعض الأوراد الطرقية، من (البركة) ، أكثر من القرآن نفسه! وأن من قرأها كان له كذا وكذا، وما [ ص: 96 ] هي إلا ضلالات في الاعتقاد، وانحرافات في التعبد.. وهكذا صار الورد هـو الشعار المميز لأتباع هـذا الطريق، أو ذاك، إذ لا يجوز لأي مريد أن يذكر بغير الورد الذي أخذه عن شيخ الطريقة ! لأنه وحده صاحب الأسرار والأنوار، وورده هـو مكمن كل ذلك فمن أخذ به وصل، ومن تركه ضل!

الإلهام والرؤيا : تعتمد الوساطة الصوفية والطرقية ، في تسيير العملية التربوية، على مجموعة من المقاييس، أهمها الإلهام والرؤيا، وما يلزم عنهما، وهو ( الزيارة ) . فأما الإلهام، الذي كان سبيل إدراك السالك للعلم اللدني، في المرحلة الأولى للتصوف ، فإنه صار في المرحلة الطرقية خاصية متعلقة بذات الشيخ فقط، ليكون أداة للكشف الذي لا يجوز في حق أحد سواه، وبذلك يستحق صحبة المريدين له، وتعلقهم به؛ ليوجههم في سلوكهم إلى الله، بإلهامه وفراسته، التي (لا تخطئ) في تلميذه!

وأما الرؤيا، فهي مستمدة، كأداة تربوية، من ( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : رؤيا المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) [12] ، ورغم اعتبار العلماء ذلك متعلقا فقط بالبشارات، والنذارات الخاصة، للتشجيع على العمل الصالح، أو الترهيب للإقلاع عن الذنوب، وأنه لا يصح بحال من الأحوال أن تتعدى صاحبها لتلزم غيره بشيء. كما لا يصح أن تتخذ مصدرا من مصادر التشريع، والتوجيه، والتخطيط الدعوي [13] ، إلا أن الفكر الطرقي جعلها صالحة لكل ذلك. بل جعلها أداة أساسية لنقل الفرد [ ص: 97 ] من مقام إلى مقام، ومن مستوى تربوي إلى آخر. وقد تأثر بعض العاملين في الحقل الإسلامي بذلك، فصارت الرؤيا عنده مصدرا لاتخاذ قرارات واسعة وغليظة!

وأما الزيارات، فهي ما تنظمه الطريقة من (حج) جماعي، أو فردي، إلى الشيخ. وهو أمر لازم عن القول بالإلهام، والرؤيا بهذا التصور، إذ الشيخ هـو المفتاح الوحيد لكشف واقع المريد التربوي ، وما ينبغي له من عمل في الحاضر والمستقبل، ثم لتفسير ما قد يكون رآه من رؤى.. وهكذا تصير الحركة كلها تدور على محور واحد، هـو الشيخ، دون سواه!

الإذن : والإذن يشمل معاني ومجالات متعددة في الفكر الطرقي، فمنها: إذن الشيخ للمريد بالذكر بهذا الورد، بعد إتمام ذاك، أي تصريحه له بالجواز، والتجويز له بدخول ذلك المقام الجديد، ثم الإذن له بالإقدام على تربية غيره بالنيابة، أو أخذ عهد الطريقة من المريدين الجدد عند غيبة الشيخ، أو في المناطق النائية، حتى يتسنى لهم التجديد على يد الشيخ لاحقا.

ولتأثير هـذا المنهج على واقع التدين العام، فقد وجد طريقه إلى بعض أفراد مؤسسات العمل الإسلامي المعاصرة، إلى درجة أن يحدثني أحد العاملين البارزين في إطارها قائلا: " إنه ليس لكل أحد أن ينهض بأمر الدعوة إلى الله، إلا بعد إذن من شيخ، له سند روحي .. فكون فلان من العلماء - وذكر لي أحد العلماء العاملين - لا يكفيه ذلك ليتصدى للعمل والتربية " !

وبهذا يرتهن العمل الإسلامي في بعض مفاهيمه، لوساطة الوسطاء! [ ص: 98 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية