الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الثاني]

فريد الأنصاري

المبحث الأول:

عبد الرحمن بن الجوزي نموذج التربيـة التوحيديـة في القرن السـادس

توفي الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ، رحمه الله، سنة 596 هجرية، فقد عاش خلال القرن السادس الذي شهد تفاعلات الأمة مع ما قرره الغزالي من وساطات على المستوى العقدي والسلوكي، خلال القرن الخامس، وبداية القرن السادس، حيث توفي رحمه الله سنة 505هـ. فصارت الوساطة بصورها المختلفة، هـي تدين غالب الجماهير مما نبه بعض العلماء إلى هـذا الانحراف عن جادة التوحيد لدى الناس، فتصدوا للإصلاح التوحيدي، والتأصيل للتدين من جديد.

وقد كان ابن الجوزي، صاحب المصنفات الكثيرة في المجال التربوي، قد ضمن أفكاره التوحيدية، مركزة في كتابه الشهير المعروف بـ : (تلبيس إبليس) ، أو (نقد العلم والعلماء) . وقد هـاله رحمه الله، إغراق الجمهور في تقديس مشايخ التصوف، إلى درجة أن يصير الحلاج ، الذي هـاجمه المتصوفة المعتدلون، علما من أعلام التوحيد!! قال ابن الجوزي: " وقد تعصب للحلاج جماعة من الصوفية جهلا منهم، وقلة مبالاة بإجماع الفقهاء! وبإسناد عن محمد بن الحسين النيسابوري ، قال: سمعت إبراهيم بن محمد النصر آبادي كان يقول: إن كان بعد النبيين والصديقين موحد فهو الحلاج! قلت: وعلى هـذا أكثر قصاص زماننا، [ ص: 103 ] وصوفية وقتنا، جهلا من الكل بالشرع، وبعدا عن معرفة النقل. وقد جمعت في أخبار الحلاج كتابا، بينت فيه حيله، ومخاريقه، وما قال العلماء فيه. والله المعين على قمع الجهال " [1] .

وقد كان ابن الجوزي يشعر أن المتصوفة المعتدلين الذين أقروا التصوف من قبل، هـم الذين شرعوا لدخول الوساطة إلى المجال التديني. كما كان يحس بصعوبة التوجه بالنقد إلى مجموعة من الأعلام والعلماء الذين ترسخت إمامتهم في قلوب الناس، وعقولهم، من مثل أبي حامد الغزالي ، ولذلك قال، وكأنه يعتذر عن منهجه النقدي: " وقعت عن بعض أشياخهم غلطات لبعدهم عن العلم، فإن كان ذلك صحيحا عنهم، توجه الرد عليهم، إذ لا محاباة في الحق، وإن لم يصح عنهم، حذرنا من مثل هـذا القول، وذلك المذهب من أي شخص صدر... والله يعلم أننا لم نقصد ببيان غلط الغالط، إلا تنزيه الشريعة، والغيرة عليها من الدخل، وما علينا من القائل والفاعل، وإنما نؤدي بذلك أمانة العلم، وما زال العلماء يبين كل واحد منهم غلط صاحبه، قصدا لبيان الحق لا لإظهار عيب الغالط، ولا اعتبار بقول جاهل يقول: كيف يرد على فلان الزاهد، المتبرك به؟ لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة، لا إلى الأشخاص " [2] .

هكذا يحاول ابن الجوزي المصلح، أن ينقل الناس برفق المربي، من التدين الوساطي ، إلى التدين التوحيدي ، من تقديس الأشخاص، [ ص: 104 ] إلى تقديس رب الأشخاص، ثم محاكمة أقوالهم وأفعالهم إلى نصوص الشريعة، التي هـي مصدر التعبد دون سواها، وذلك هـو عين التوحيد.. وبناء على هـذا المنهج الذي رسمه، فقد شرع في نقد أبرز المشايخ الذين جعلوا أنفسهم وسطاء وأوصياء على تدين الناس، أو جعلهم الناس كذلك.

فكان أبو حامد الغزالي ، من بين أبرز الشخصيات التي واجهها بالنقد، رغم أن آثاره التوجيهية ما زالت طرية، وما زال الناس في انبهار (بإحيائه) ، الذي صار متنا تشريعيا للتربية، والتدين العام.. فقال ابن الجوزي في سياق سرد المصنفات، التي مالت بالأمة إلى التدين الوساطي : " وجاء أبو حامد الغزالي، فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم، وملأه بالأحاديث الباطلة، وهو لا يعلم بطلانها. وتكلم في علم المكاشفة ، وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب، والشمس، والقمر، اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه، أنوار، هـي حجب الله عز وجل ، ولم يرد هـذه المعروفات، وهذا جنس من كلام الباطنية " [3] .

إن ابن الجوزي كان يعلم صعوبة المهمة، التي هـو مقبل عليها، إذ تمكن التقليد بشتى صوره، وفي جميع الميادين العلمية، والتعبدية، من قلوب الناس وعقولهم، لذلك فقد انتدب نفسه للدعوة، والتربية، والإصلاح، واشتهر بخطبه، ومواعظه البليغة، بالعراق ، موطن التصوف ، وحمل راية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، يستوي لديه [ ص: 105 ] في ذلك الحاكم والمحكوم.. وبذلك فقد استطاع استمالة الناس في نهاية المطاف إليه، وإقناع كثير من الخلق بمنهجه التوحيدي. وقد ذكر أنه كان يعقد مجلسه كل خميس ببغداد ، ويحضره عدة آلاف من الناس [4] ، حتى قال عنه الشيخ علي الطنطاوي : " أما منزلته في الوعظ فما عرف من يدانيه فيها، وقد قرأت سير عشرات من أساتذة الوعظ فما رأيت من أوتي قوة العارضة، وحسن التصرف في فنون القول، وشدة التأثير في الناس، ما أوتيه ابن الجوزي " [5] .

وبهذه القوة، انطلق يحارب مظاهر الوساطة ، وشتى أشكال الوسطاء.. وقد كانت المشيخة الصوفية في عصره، قد بدأت تبرز بشكلها الطرقي، كما بينا، وظهرت مقولة التسليم الكامل لوسطاء التربية الصوفية، فانتصب ابن الجوزي بكل قوته، مهاجما هـذه المقولات الوساطية، وما شابهها.. قال رحمه الله معلقا على قولهم: (من قال لأستاذه: لم، لم يفلح ) : " قال المصنف، رحمه الله: هـذه دعاة الصوفية، يقولون: الشيخ يسلم له حاله، وما لنا أحد يسلم إليه حاله! فإن الآدمي يرد على مراداته بالشرع والعقل، والبهائم بالسوط! [6] .

واستمر رحمه الله، ينزع المشروعية عن الوسطاء، باعتبارهم مصادر للتدين، مؤكدا في نفس الوقت أن المصدرية المطلقة، إنما هـي للدليل، [ ص: 106 ] أو النص الشرعي، فقال منبها على هـذا المعنى: " واعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص، ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ما جرى على يد المسيح صلوات الله عليه، من الأمور الخارقة، ولم ينظر إليه، فادعى فيه الألوهية، ولو نظر إليه، وأنه لا يقوم إلا بالطعام، لم يعطه ما لا يستحقه. " [7] .

وقال في غير هـذا السياق متحدثا عن عموم الوساطة ، بتعظيم الرجال في مختلف المذاهب، والاتجاهات: " واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص، فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال؛ لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل " [8] . وبذلك كان يبطل التقليد بشتى صوره، سواء في المجال الروحي، أو المجال الفقهي، أو العقدي، مؤكدا ضرورة الاستقلال في طلب المفاهيم الدينية، والتجرد من اعتبار سلوك فلان، أو مقولته، إلا بقدر ما تنطلق من نصوص القرآن والسنة وتحتكم إليها، أما أن يصدر الوسيط عن مجرد عقله، أو ذوقه فيملي بذلك على الناس، فهو ما يعني الاستخفاف بعقولهم وأذواقهم، وفي هـذا السياق نورد كلمة ذهبية لابن الجوزي ، يبين فيها قيمة العقل، والاستقلال به عن التقليد، [ ص: 107 ] يقول: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه.. وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها، أن يطفئها، ويمشي في الظلمة! " [9] .

إلا أن الحاكم على جميع العقول، هـو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا قيمة لرأي في مجال التدين ليس له أصل منها؛ وهذا ما جعل ابن الجوزي ، يحارب الوساطات، أي من حيث كونها إملاء بالتشهي، والذوق الخاص، دون انضباط إلى قواعد الشرع وأصوله، وهو عين ما هـاجمه في الوساطة الروحية لدى المتصوفة ، بشدة بالغة، قال رحمه الله: " وصنف لهم أبو طالب المكي: (قوت القلوب) ، فذكر فيه الأحاديث الباطلة، وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام، والليالي، وغير ذلك من الموضوع، وذكر فيه الاعتقاد الفاسد، وردد فيه قول: (قال بعض المكاشفين) ، وهذا كلام فارغ " [10] .

ومثله بالضبط ما تردد في (إحياء) الغزالي ، كما رأينا، ولذلك فقد أنكر ابن الجوزي كل ابتداع في الدين، وكل توجيه تربوي للمتدينين، لا يقوم على أساس من النصوص الشرعية، ويمجد ذات الوسيط، حتى تصير مشيخته مصدرا للتدين، مستقلا عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل حتى تصير قصائده في معاني التصوف (ذكرا) ! فتحفظ عن ظهر قلب، ويهجر كتاب الله عز وجل . فصارت دواوين الأقطاب في عصور الانحطاط، والى اليوم، عند بعض الناس، (أسرارا) ، أخص من [ ص: 108 ] الوحي، وأدق! وقد تصدى ابن الجوزي لهذه الظاهرة في بداياتها، ولما تبلغ من الخطورة ما بلغت بعد.

قال رحمه الله: " وقد شب حب السماع بقلوب خلق منهم فآثروه على قراءة القرآن، ورقت قلوبهم عنده بما لا ترق عند القرآن، وما ذاك إلا لتمكن هـوى باطن " [11] .

وقد أكثر ابن الجوزي رحمه الله - وهو الواعظ الزاهد - من نقد الوساطة الروحية لدى المتصوفة ، كمبالغتهم في تقدير شيوخهم، ورفعهم إلى مقام الأنبياء، وتدينهم بما تمليه عليهم خواطرهم وإراداتهم دون عرض ذلك على النص الشرعي، وكذا تربيتهم الخلق بمناهج ما أنزل الله بها من سلطان، تقوم على ما يسمى عندهم ( بأدب المريد ) ، الذي لا يعني شيئا، غير خروج الفرد عن فطرته، وذاته، وشخصيته، وتقمص شخصية الشيخ ، وإن أول الطريق وآخره، إنما أساسه خدمة المشايخ، والوقوف لدى أعتابهم.

إلا أن صاحبنا مع ذلك لم يغفل الوساطة الفكرية ، في صورتها العقدية والفقهية، حيث ذم التقليد، وشنع على المقلدة، من حيث إنهم ألغوا عقولهم، وتابعوا المذاهب الكلامية، والفقهية، دون النظر إلى أدلتها، ولكن بالنظر فقط إلى رجالها وأشياخها، وهو عين ما سميناه بالوساطة الفكرية.

ومعلوم أن الاتجاه الأشعري في الكلام، هـو الذي كان مسيطرا في [ ص: 109 ] عصر ابن الجوزي، بعد إقراره من طرف الغزالي ، وغيره من العلماء فصار بذلك عقيدة الشعوب الإسلامية، وضمر الاعتقاد بعقيدة السلف، لسيطرة التقليد على الجماهير، فيما أملاه أبو الحسن الأشعري ، وتلامذته من بعده.

قال ابن الجوزي رحمه الله: " دخل إبليس على هـذه الأمة في عقائدها، من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف، والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره، ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه، فأوقع أصحاب هـذه القسم في فنون من التخليط.

فأما الطريق الأول، فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى، والتقليد سليم، وقد ضل في هـذه الطريق خلق كثير. وبه هـلاك عامة الناس.

وأما الطريق الثاني، فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد، وساقهم سوق البهائم، ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة، فاستغواهم على قدر تمكنه منهم... منهم من نفره إبليس عن التقليد، وحسن له الخوض في علم الكلام ، والنظر في أوضاع الفلاسفة؛ ليخرج بزعمه عن غمار العوام، وقد تنوعت أحوال المتكلمين، وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد، ولم تسكت القدماء من فقهاء هـذه الأمة عن الكلام عجزا، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا، ثم يرد الصحيح عليلا، فأمسكوا عنه، ونهوا عن الخوض فيه " [12] . [ ص: 110 ]

إن هـذا النص صريح في دلالته، على أن ابن الجوزي رحمه الله، لم يكن يعتبر العقيدة على الصورة والمنهج الكلاميين -من حيث هـي عقيدة كلامية- ذات طابع فلسفي، يستوي في ذلك الاتجاه المعتزلي، والأشعري، وغيرهما، وهو يشير في ذلك إلى الأثر التربوي السيئ للعقيدة الكلامية حيث ترد الصحيح عليلا.. إذ التربية عقديا، إنما تحصل بنصوص القرآن، وهو بذلك يؤكد أن التدين من الناحية العقدية، لا يصح استصداره من المنظومات الكلامية، وإنما من النصوص الشرعية، وهو معنى من معاني سكوت فقهاء السلف عن الخوض في علم الكلام .

وأصرح من هـذا عنده، ما بينه بعد مهاجمة كل العقائد الكلامية، وذلك في قوله رحمه الله: " فإن قال قائل: قد عبت طريق المقلدين في الأصول، وطريق المتكلمين، فما الطريق السليم من تلبيس إبليس؟ فالجواب أنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه، وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه، وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير، ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه " [13] ، وكان يشير بذلك إلى إثبات الأشعرية للصفات، ولكن بصورة كلامية فلسفية في مقولتهم المشهورة (ليست هـي الذات، ولا هـي غيرها ) ، وإنما العقيدة عنده تؤخذ بنصوصها القرآنية والحديثية. ولذلك قال بعد في نفس السياق: " ولا نتعدى مضمون الآيات، ولا نتكلم في ذلك برأينا، [ ص: 111 ] وقد كان أحمد بن حنبل ينهى أن يقول الرجل: لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق، لئلا يخرج عن الاتباع للسلف إلى حدث " [14] ، ولذلك فقد عاب على بعض الحنابلة الذين انخرطوا في سلك الأشعرية ؛ لاعتبارهم إياها عقيدة أهل السنة والجماعة، كما وقع لكثير من المذاهب الفقهية، وما هـي إلا عقيدة أبي الحسن الأشعري ، وأتباعه، وإنما العقيدة السنية هـي فقط ما نص عليه الكتاب والسنة، دون تأويل، ولا تفسير، كما ذكر رحمه الله.. قال في سياق حديثه السابق عن أحمد بن حنبل، رحمه الله: " والعجب ممن يدعي اتباع هـذا الإمام، ثم يتكلم في المسائل المحدثة " [15] .

هكذا إذن كان ابن الجوزي في القرن السادس الهجري، رأسا لحركة تصحيحية، لما تقرر من وساطات، في القرن الرابع والخامس، وتأصيله لما ينبغي أن تكون عليه الأمة في تدينها، وتسير عليه في تربيتها، اعتقادا، وفقها، وسلوكا.. ومات ابن الجوزي رحمه الله، وقد ترك آثارا بالغة في المجتمع الإسلامي، من حيث أرسى قواعد مدرسة التأصيل، والدعوة إلى التوحيد، فظل مجتمع تسوده الوساطة، بكل أشكالها. [ ص: 112 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية