الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الثاني]

فريد الأنصاري

المبحث الثالث: الإمام محمد بن عبد الوهاب

نمـوذج التربيـة التوحيديـة في القرن الثانـي عشـر

توفي محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، سنة 1206هـ، أي بداية القرن الثالث عشر، لكن انطلاق دعوته كان حوالي سنة 1153هـ، حيث اشتهر أمره، وتبعه من أهل نجد خلق مناصرون، وإن كان ينكر العقائد الفاسدة قبل ذلك في صغره ببلدته ( العيينة ) ، من بلاد نجد، ثم استقر بعدها مع أبيه عبد الوهاب في بلدة ( حريملة ) بنجد، حيث اشتهر أمره بعد وفاة أبيه في التاريخ المذكور، وقد تعرض للقتل والطرد مرات، بالحريملة، والعيينة، بعدما عاد إليها، فأكرمه حاكمها، ثم أخرجه بعدما هـدده حاكم ( الأحساء ) ، فسار إلى ( الدرعية ) سنة 1160هـ، فأكرمه صاحبها محمد بن سعود ، وقال له: أبشر بالخير، والعزة، والمنعة! فقال له الشيخ: وأنا أبشرك بالعز، والتمكين، والغلبة، على جميع بلاد نجد.. وهذه كلمة (لا إله إلا الله) ، من تمسك بها، وعمل بها، ونصرها، ملك بها البلاد والعباد، وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل، من أولهم إلى آخرهم؟

فتعاهد الرجلان على النصرة، فبايع محمد بن سعود الشيخ محمد بن عبد الوهاب، على الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فانتظم لهما من أهل الدرعية جيش قاتلا به أهل نجد والأحساء، دفعات كثيرة، إلى أن أدخلوهم في طاعتهم، ولما اتسعت بلادهم، وأمنت [ ص: 139 ] الطرق، وانقاد لهم كل صعب، عرض الشيخ أمر الناس، وأموال الغنائم إلى عبد العزيز الأمير ، وتفرغ هـو للعلم والتعليم والعبادة [1] .

وقد ترك رحمه الله، مجموعة من المصنفات في التفسير، والفتاوى الفقهية والأصولية، غير أن الكتاب الذي تضمن دعوته بشكل مركز، هـو كتاب (التوحيد) الذي حارب من خلاله الوساطات العقدية، والسلوكية، في صور الاعتقاد الكلامي، والأشعري منه خاصة، باعتباره تدين كثير من الناس، وكذا الاعتقاد الشعبي الخرافي، بتعظيم الأشجار، والقباب، والأحجار، ونحوها، ثم مظاهر الوساطة الروحية ، كما عرفت في انحطاطها الطرقي، الذي صار إلى نوع من التأليه للأشياخ، والسحرة، والكهان، على أنهم أولياء الله، المتصرفون في خلقه! قال العقاد ، معلقا على سيرة ابن عبد الوهاب رحمه الله:

" وظاهر من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أنه لقي في رسالته عنتا، فاشتد كما يشتد من يدعو غير سميع! ومن العنت إطباق الناس على الجهل، والتوسل بما لا يضر ولا ينفع، والتماس المصالح بغير أسبابها، وإتيان المسالك من غير أبوابها... توسلا بأباطيل السحرة، والدجالين حتى في الاستسقاء، ودفع الوباء، فكان حقا على الدعاة، أن يصرفوهم عن هـذه الجهالة، وكان من أثر الدعوة الوهابية أنها صرفتهم عن ألوان من البدع، والخرافات، ولكن المهم في الإصلاح أن ينصرفوا عن الجهل، الذي يوقعهم في بدع غير تلك البدع، وخرافات غير تلك الخرافات " [2] . [ ص: 140 ]

إن الدعوة التوحيدية، لدى ابن عبد الوهاب ، إنما كانت استمرارا لنهضة القرن الثامن الهجري، واستمدادا من تجربتها، وخاصة حركة ابن تيمية بمقولاتها التوحيدية، في العقيدة، والمعاملة، والسلوك، ولذلك فقد قال الحجوي رحمه الله، في سياق حديثه عن ابن تيمية: " وأفكاره في فهم حقيقة الدين الإسلامي، وتجريده عن زوائد الابتداع، وإخلاص الدعوة للتوحيد الحق، وترك المغالاة في تعظيم المخلوق كي لا يلحق بالخالق، هـي الأصل في مذهب الوهابية، فتواليفه ومباديه هـي الأصول التي يرجعون إليها، ومجمل مذهبهم توحيد خالص، والعمل بالكتاب والسنة الصحيحة، أو الحسنة، وترك تقليد الأوهام " [3] .

ولكن لا يعني ذلك أن ابن عبد الوهاب قد جعل اجتهادات ابن تيمية هـي الأصل في التوحيد، والنص المرجوع إليه، وإنما قد استفاد من تجربته بشكل كبير، وجعل منها مادة مرجعية له، لا مصدرية، والدليل على ذلك أن كتاب التوحيد الذي ألفه لبيان فكرته الدعوية، إنما هـو تراجم أصلها من مجموعة من النصوص القرآنية والحديثية، التي اختارها بعناية في هـذا الباب، أو ذاك، مستعينا في شرحها بأقوال السلف، كابن عباس رضي الله عنه ، وغيره، وكذا أقوال ابن تيمية، ويكاد يكون كل الكتاب سردا لمجموعة من النصوص الشرعية، يستدل بها على تراجم الأبواب، على غرار صنيع البخاري في صحيحه، [ ص: 141 ] وأصحاب كتب فقه الحديث، ثم يفرع عن النصوص جملة من المسائل المختصرة والمركزة جدا.. ومن هـنا صار الكتاب مادة تحتاج إلى شرح وتفصيل، وهذا ما قام به حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ، في كتابه المشهور: (فتح المجيد.. شرح كتاب التوحيد) .

فالمنهج إذن، الذي سار عليه ابن عبد الوهاب ، توحيدي خالص، سواء في المجال العقدي، المحض، أو المجال الفروعي.. فهو وإن انتسب إلى المذهب الحنبلي غير متقيد به، إلا فيما عليه دليل شرعي، وإنما تقيده بالأصول: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. وهذا ما شهد به العلامة الحجوي في قوله عنه، رحمه الله: " عقيدته: السنة.. الخالصة على مذهب السلف المتمسكين بمحض القرآن والسنة، لا يخوض التأويل والفلسفة، ولا يدخلها في عقيدته.. وفي الفروع: مذهبه حنبلي، غير جامد على تقليد الإمام أحمد ، ولا من دونه، بل إذا وجد دليلا أخذ به، وترك أقوال المذهب، فهو مستقل الفكر في العقيدة والفروع معا " [4] .

والذي يلقي نظرة سريعة على تراجم كتاب التوحيد يدرك أن جميع المسائل والقضايا، تدور على محور واحد هـو (التوحيد) فعلا، سواء من حيث إثبات المبدأ والتأصيل له، وشرحه، أو من حيث نفي الوساطات في التدين، وأفكارها العقدي منها والروحي سواء. ولنأخذ نماذج من هـذه التراجم لبيان المقصود، وذلك نحو قوله في افتتاح [ ص: 142 ] المصنف: " كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات:56]، ثم شرع في الأبواب، وأولها: باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.. وباب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.. وباب الخوف من الشرك.. وباب الدعاء إلى شهادة لا إله إلا الله ... وباب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله.. وباب ما جاء أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم، هـو الغلو في الصالحين.. وكذا باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات.. وباب قول الله تعالى: ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) [البقرة:22]... الخ.

وسائر أبواب الفقه، إنما تدور حول هـذه المعاني، ولا تكاد تخرج عنها، وكما ترى أخي القارئ من خلال هـذه النماذج القليلة، فإن ابن عبد الوهاب، جعل التوحيد، هـو أساس التدين، بل هـو كل التدين؛ حيث إنه رحمه الله أشار إشارات ذكية في مواطن متعددة، تنبئ أنه كان ينظر إلى التوحيد نظرة شمولية؛ أي لا تحصره في المجال العقدي النظري التصوري، بل تسري به إلى مجال المعاملات والسلوك، حيث يتمثل التوحيد أو عدمه، من خلال أعمال المكلف، وتصرفاته، مثل ما نلمسه في الترجمة الأولى، حيث قال: " كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات:56]، ( وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد، أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على [ ص: 143 ] الله، أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. قلت: يا رسول الله، أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا ) [5] .

وقد سرد في الترجمة نصوصا قرآنية، وحديثية تدور على نفس المعنى، ثم قال معلقا: " فيه مسائل:

الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.

والثانية: أن العبادة هـي التوحيد، لأن الخصومة فيه... " [6] ولذلك لم يعتبر العمل عبادة، إلا إذا كان من خلال التوحيد، أي لا يدخله شرك أو رياء، أو أي شيء مما يخرم الإخلاص لله الواحد القهار، من اعتبار الوساطات المادية والمعنوية على السواء، ولذلك نبه إلى أن قول: (لا إله إلا الله) لفظا لا يدخل الجنة حقا، كما تقتضيه ظواهر بعض الأحاديث، بل الشهادة لا قيمة لها، ولا حقيقة لها، إلا من خلال الممارسة. فالتوحيد إذن عمل، وتطبيق، ومنهج معين في التعبد يتم بمقتضاه إلغاء كل أشكال الوسطاء الذين يزاحمون توحيد الذات الإلهية في شعور العبد، وهو يمارس التدين، فلا يسقط في هـوة الوساطة، التي تعني مما تعني إشراك الله مع غيره في التوجه إليه بالأعمال.. ولذلك قال ابن عبد الوهاب في (باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) : ( عن عبادة بن الصامت ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شهر أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد [ ص: 144 ] الله ورسوله، وكلمته، ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) أخرجاه [7] . ولهما في ( حديث عتبان : فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله ) [8] . فقال معلقا: " تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة ... إنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان... تبين لك معنى قول (لا إله إلا الله) ، وتبين لك خطأ المغرورين " [9] .

قال شارحه، الشيخ عبد الرحمن آل الشيخ ، رحمه الله: " تبين لك أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط " [10] وقال: " إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هـذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه، يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيئ، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله، وهذا هـو الذي يحرم على النار، وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هـذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة، وهذه المحبة، وهذا اليقين، لا تترك له ذنبا إلا محي عنه " [11] . فأي مكان للوسطاء بعد ذلك، في مثل هـذا القلب، الذي جعل عمله كله إخلاصا لله، وتوحيدا له، وتفريدا؟ [ ص: 145 ]

لقد كان ابن عبد الوهاب رحمه الله، يعلم مركزية التوحيد العقدي في المذهبية الإسلامية، كما يعلم أن الإتيان به على حقه، سيؤدي لا محالة إلى تصفية كل أشكال العبادة، والأعمال من الشرك الأكبر والأصغر، فينتج عن ذلك في نهاية المطاف، تدين التوحيد الخالص من الوساطات. ولذلك جعل من الضروري البدء في العمل الديني، بتقرير التوحيد في النفس، وتحقيق مقتضاه الشعوري؛ لأنه كما عبر هـو: " أول واجب " [12] .. فلذلك وجب " أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة " [13] ، إذ هـو المنهج الحاكم على سائر أنواع التعبدات، إن لم تؤد على وفقه، ولم تخرج من مشكاته، تاهت في ظلمات الوساطة .

وكما أوجب التوحيد في التصور العقدي، والممارسة السلوكية ، فقد حارب الوساطة فيهما معا؛ حيث اعتبر العقيدة الأشعرية في المجال الأول عقيدة تعطيل للصفات الإلهية رغم أن المعطلة إنما هـم المعتزلة ، وذلك بسبب ما صارت إليه الأشاعرة من تأويل للصفات، وتفسيرها بلغة فلسفية خارج نطاق النصوص.. وإنما الإثبات الحقيقي للصفات هـو حملها على نصوصها كما وردت، دون تشبيه، ولا تكييف، ولا تجسيم، ولا تأويل، بل بقبول النص، وتسليم مقتضاه من حيث الماهية المجهولة إلى القائل الذي هـو الله تعالى كما قال عن نفسه، وكما أخبر سبحانه وتعالى . ذلك هـو: " إثبات الصفات، خلافا للأشعرية المعطلة " [14] ، [ ص: 146 ]

هكذا عبر ابن عبد الوهاب رحمه الله. وإنما المقصود عندنا هـاهنا هـو بيان أنه رحمه الله كان حريصا على نفي الوساطة العقدية ، ولم يكن يأخذ عقيدته عن أي وسيط، بل من ذات النص الشرعي مباشرة، وهو عين التوحيد! كما أنه حارب الوساطة الروحية ، كما ذكرنا، ولم يقبل أن تكون حاضرة، بشكل من الأشكال في منهج التربية على التدين والسلوك، وقد أغلظ القول فيها حتى اعتبرها من الشرك الأكبر! ولذلك فقد كثر حديثه عنها، وإنكاره لأشكالها خلال كتاب التوحيد، مرات كثيرة جدا. ومن أجمع النصوص في هـذا السياق، قوله في (باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله) :

" فيه أكبر المسائل، وأهمها: وهي تفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة، منها آية الإسراء، بين فيها الرد على المشركين، الذين يدعون الصالحين.. ففيها بيان أن هـذا هـو الشرك الأكبر.. ومنها آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا. مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء، والعباد في المعصية، لا دعاءهم إياهم... ومنها آية البقرة في الكفار، الذين قال فيهم: ( وما هـم بخارجين من النار ) [البقرة:167]، ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟ " [15] .. وهو يشير بذلك إلى قول الله عز وجل [ ص: 147 ] في سورة البقرة: ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) [البقرة:165]، فأدخل تحتها فقراء التصوف ، الذين اتخذوا غوثا ، وأقطابا ، وأبدالا ، يلقنونهم التدين على مقتضى أهوائهم، لا على مقتضى النص الشرعي، ولذلك قال شارحه رحمه الله، معلقا على الباب الذي بعده: (باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله، أو يدعو غيره) :

" قال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله، في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة، وبعد الممات، على سبيل الكرامة: هـذا وإنه قد ظهر الآن في ما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم، وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهم تكشف المهمات... وقالوا: منهم أبدال، ونقباء، وأوتاد، ونجباء، وسبعون، وسبعة، وأربعون، وأربعة، والقطب هـو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس " [16] إن هـذه العقائد الخرافية، التي مثلت أردأ ما وصل إليه الفكر الطرقي من انحطاط في هـذه المرحلة، كما وصفنا قبل بتفصيل، إنما منشؤها، ومبدؤها التربية عبر الوسيط الروحي، في الفكر الصوفي الأول. حيث كان الشيخ لا يعتقد فيه كل هـذا الاعتقاد، وإنما يتخذ باعتباره دليلا إلى الله، لكن بنوع من التسليم المطلق لمشيئته وإرادته، دون الإنكار عليه، أو مراجعته في منهج التدين والسلوك والفهم. قاد هـذا إلى ذاك، [ ص: 148 ] وأدى إليه. وكلها وساطة منكرة، مهما دقت وصغرت، أو جلت وكبرت! ولذلك فإن ابن عبد الوهاب ، إذ ترجم لمعاني التوحيد، منكرا عبر عموم النص، عموم الوساطات، مشيرا إلى ما كان في عصره، أو قبله من أشكال الانحراف عن التدين السليم، والمنهج التربوي الحق، فإنه بذلك قد مثل نموذجا من نماذج الدعوة التوحيدية، القائمة على إعادة تشكيل التدين العام، فهما وممارسة، بناء على النصوص الشرعية، كمصادر متفردة للدين.. وذلك هـو ما قصدناه بالتربية التوحيدية.

وقد كان ابن عبد الوهاب، عليما بخطورة الوساطة الروحية ، في صورتها التربوية، وأنها هـي التي قادت إلى قلب حقائق الدين، في كثير من الجوانب، حتى صار الدين الحق، والمتدين الحق، غريبين في مجتمع الوساطات! وهذا ما صرح به في تعليقه على ما ترجم له بقوله: (باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم، هـو الغلو في الصالحين) .. وذكر نصوصا كثيرة من بينها قوله: " في الصحيح، " عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قول الله تعالى: ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ) [نوح:23]، قال: هـذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هـلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هـلك أولئك، ونسي العلم، عبدت " " .. فقال ابن عبد الوهاب معلقا، وهو ينزل ذلك على عصره: " فيه مسائل: الأولى: من فهم هـذا الباب... تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله، وتقليبه للقلوب، العجب.. الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض، أنه بشبهة الصالحين... [ثم] التصريح بأنها [ ص: 149 ] لم تعبد، حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده " [17] ..

وهكذا يكون ابن عبد الوهاب أيضا، على غرار الشاطبي ، وابن تيمية ، وابن الجوزي ، وكل أعلام الدعوة التوحيدية، يركز على أهمية العلم، وخطورته في حماية التوحيد، وإنكار الوساطة ، وقدرته على محاربة تجلياته المختلفة، كما تتبين حساسيتهم الشديدة، تجاه الوساطة الروحية على الخصوص، وأشكال المشيخة التربوية وطقوسها!

إن دعوة ابن تيمية رحمه الله، إذ غلب عليها الطابع العلمي التنظيري مع التنزيل الفردي للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، في شخص ابن تيمية نفسه، رحمه الله، وبعض تلامذته، فإن ابن عبد الوهاب، الذي كان امتدادا لهذه الدعوة، قد أعطاها بعدا آخر، هـو البعد الحركي؛ حيث عمل ما في وسعه، كما تبين قبل، على امتلاك عناصر القوة الفعلية، والإرادة الحركية، للقيام بهذه المهمة الدعوية، في صورة الجهاد، تحت راية التوحيد من جديد، حتى مكن الله لها، فصارت إلى ما ذكرنا.

ولعل هـذا هـو السر الذي أعطى لحركة ابن عبد الوهاب التوحيدية، أثرا بالغا، واسعا في نفس الوقت، على كثير من الشخصيات الإصلاحية، والحركات الدعوية، والوطنية أيضا، إبان الاستعمار للعالم الإسلامي. وبقي امتداد أصدائها حتى قيام حركة الوعي الإسلامي الحديث، وانتشارها عبر الأقطار الإسلامية، وهي تحمل نفسا من حركات المصلحين الذين دعوا إلى التوحيد. [ ص: 150 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية