الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( ب ) المدرسة الفقهية ونموذج الوساطة الفكرية

وكما ترسخت الوساطة في المجال الكلامي، في القرن الرابع الهجري، فقد ترسخت بنفس الفترة الوساطة الفقهية، وصار العلم الذي كان ذا مضمون تربوي توحيدي، يخرج عن هـدفه، ليسقط في فخ التلقين المذهبي، أي التقليد. يقول العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي : " هذا التقليد بعدما كان قليلا، في المائة الثالثة، صار غالبا في الرابعة، بل أصبح جل علمائها مقلدين متعصبين مع أن الكل يعلم أن لكل إمام هـفوة، وسقطة، بل سقطات " [1] ولم يكن التقليد الفقهي يعني شيئا، غير اغتيال العقل، وتقمص ذات الوسيط، وترسم آرائه في تنزيل الدين على أفعال الناس وتصرفاتهم، فالكل كان يعلم أن الكتاب والسنة، هـما المصدران الوحيدان للتدين بيد أن المقلدة حصرت قدرة الفهم والاستنباط، في مجموعة معينة من الأئمة، صارت أقوالهم فيما بعد متنا تشريعيا، بسبب ما أضفي من العصمة اللاشعورية على اجتهاداتهم.. فالتقليد الفقهي إذن، هـو بالضبط عين الوساطة التدينية، كما بيناها، في المجال التربوي. [ ص: 41 ]

يقول الشيخ الخضري رحمه الله: " نعني بالتقليد، تلقي الأحكام من إمام معين، واعتبار أقواله كأنها من الشارع، نصوص يلزم المقلد تباعها " [2] ، مما أدى إلى شيء من التقديس غير المشروع، الذي قد يوصل إلى الشرك الخفي، في التعبد العام، تتلقاه الأجيال الإسلامية، جيلا عن جيل، منذ القرن الرابع، إلى بداية قرننا هـذا. وما زال للوساطة الفقهية اليوم، آثار تختلف حدتها من مكان لآخر. وبذلك يمكن أن نفسر كثيرا من العجز الذي أصاب الأمة، في عصور الانحطاط من حيث ضعف المبادرة، وندرة الرواحل القيادية، بسبب الآفة التربوية الوساطية، التي ترسخت من خلال التلقين الفقهي الاستهلاكي، لا الاجتهادي.

فالناس كلهم خاصتهم، وعامتهم، كما يقول الحجوي ، صاروا: " عالة على فقه أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وابن حنبل ، وأضرابهم.. وأصبحت أقوال هـؤلاء الأئمة، بمنزلة نصوص الكتاب والسنة، لا يعدونها، وبذلك نشأت سدود بين الأمة، وبين نصوص الشريعة.. وأصبحت الشريعة هـي نصوص الفقهاء، وأقوالهم " [3] .. فانظر إلى أي حد بلغت الوساطة الفقهية، في ترسيخ القطيعة المصدرية، بين الناس وبين كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ! إن هـذه (السدود) ، على حد تعبير الحجوي، قد شكلت عائقا ( ابستمولوجيا ) ، يحول دون بروز العقليات القيادية، الإبداعية، والعقليات الجندية الفاعلة على حد سواء! [ ص: 42 ]

وقد سقط المنهج التربوي التعليمي، في نفس الفخ، بالطبع، حيث صارت المدارس الإسلامية، تقوم على التلقين المذهبي، معرضة بذلك عن دراسة، وتدريس النصوص القرآنية، والحديثية، قصد التجديد والاستنباط، كما كان الناس يفعلون في القرون الثلاثة الأولى.. " فبعد أن كان مريد الفقه يشتغل أولا بدراسة الكتاب، ورواية السنة، اللذين هـما أساس الاستنباط، صار في هـذا الدور يتلقى كتب إمام معين، ويدرس طريقته " [4] ويصف ابن خلدون في نص عجيب، واقع الوساطة الفكرية، في الفقه الإسلامي، وآثارها التعليمية، مبينا تعلق الطلبة بشخصانية الملقنين من المعلمين، والانغلاق على ما سوى كتبهم، وعكوفهم عليها عكوف المقدس لها! وهاك النص بطوله، لما فيه من البيان الغريب، لهذا الأمر العجيب، قال:

" ورحل من الأندلس عبد الملك بن حبيب ، فأخذ عن ابن القاسم ، وطبقته، وبث مذهب مالك في الأندلس، ودون فيه كتاب (الواضحة) ، ثم دون العتبي، من تلامذته، كتاب (العتبية) .. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات ، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولا، ثم انتقل إلى مذهب مالك، وكتب عن ابن القاسم، في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان بكتابه، وسمي (الأسدية) ، نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد، ثم ارتحل إلى المشرق، ولقي ابن القاسم، وأخذ عنه، [ ص: 43 ] وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها، وكتب سحنون مسائلها، ودونها، وأثبت ما رجع عنه، وكتب لأسد أن يأخذ بكتاب سحنون، فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه، واتبعوا مدونة سحنون، على ما كان فيها من اختلاط المسائل، في الأبواب، فكانت تسمى المدونة، والمختلطة، وعكف أهل القيروان على هـذه المدونة، وأهل الأندلس على الواضحة، والعتبية، ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة، والمختلطة، في كتابه المسمى (بالتهذيب) ، واعتمده المشيخة من أهل إفريقية ، وأخذوا به، وتركوا ما سواه، وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب (العتبية) ، وهجروا (الواضحة) ، وما سواها، ولم تزل علماء المذهب، يتعاهدون هـذه الأمهات بالشرح، والإيضاح، والجمع ... إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب ، لخص فيه طرق أهل المذهب، في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة، فجاء كالبرنامج للمذهب! " [5] فانظر إذن إلى هـذا الارتباط المذهبي، بوسائط، ليس فيها شيئ، غير رواية قول مالك ، أو قول ابن القاسم ، دون الإشارة إلى نص واحد من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك عكف عليها الناس، كما رأيت، عكوف تفريد غريب، حجب عنهم الالتفات إلى نصوص الشارع المصدرية، وانزلق الناس إلى حافة التقليد الأعمى، حتى إذا تنبه بعضهم إلى شيء من القرآن أو السنة، يخالف قول إمام، أو شيخ، في إطار المناظرات المذهبية، رد وسيط المذهب بإثبات قول الإمام، ولم يستدل بقول الله والرسول، عليه الصلاة والسلام ! وكم هـو غريب ما نقلته كتب تاريخ التشريع، [ ص: 44 ] عن الإمام الكرخي المتوفى سنة 340 هـ، حيث قال: " كل حديث يخالف ما عليه أصحابنا، فهو مؤول، أو منسوخ " [6] ، وفي رواية " كل آية، أو حديث " ، فقال الحجوي معلقا على هـذا الكلام: " فكأنه جعل نصوص مذهبه، هـي الجنس العالي، والأصل الأصيل، حاكمة على نصوص السنة والتنزيل، معيارا يعرض عليه كلام رب العالمين، والرسول الأمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون " [7] إلى هـذا الحد إذن، بلغ التأثير الوساطي للمذاهب الفقهية، على علماء الأمة، الذين هـم المربون، والموجهون لعامة الخلق، المنزلون للدين على وقائعه، فكيف إذن سيكون حال العامة، إذا كان هـذا هـو حال خاصتهم؟! طبعا سيتدينون بعيدا عن التوحيد الخالص، كما ورد في الكتاب والسنة، وتتسلل إليهم الخرافة والشرك الخفي، إذ لم يكن تأثير داء الوساطة منحصرا في أوساط المتعلمين فحسب، على حد تعبير عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ ، " بل في صفوف الأمة جميعا، عامتها وخاصتها، علمائها ودهمائها " [8] وكان للوسطاء دور خطير في ترسيخ المشيخة الكهنوتية ، في الذاكرة الشعبية، التي وصلت إلى درجة التقديس لأئمة المذاهب من ناحية، وجعل هـذا الإحساس الخطير، يسيطر على الأمة كلما تعلق الأمر بنابغة من النوابغ، في أي مجال من المجالات، وكان ذلك هـو الطريق المعبد [ ص: 45 ] لظهور الأضرحة، ورفع الدعاء والطلب من أصحاب القبور، إلى غير ذلك من ألوان الانحطاط الوساطي، التي ستكرسها، وتباركها الطرق الصوفية، كما سنبين ذلك بحول الله.

قلت: إن هـذا المعنى، كانت بداياته تلوح مع الفقهاء المقلدة، الذين كان المفروض فيهم، باعتبارهم (فقهاء) ، أن يحاربوه، ويدافعوه، ولكن مع الأسف، كان معظمهم مؤسسين له، من حيث يشعرون، أو لا يشعرون.. قال الشيخ الخضري ، رحمه الله: " فقلما تجد علماء مذهب إلا وصفوا إمامهم بأنه: إمام الأئمة غير مدافع، وذكروا له من الصفات، ما يجعله من المجلين في ميدان الفقه والاستنباط، وربما تطرف بعضهم، فنال من بعض الأئمة المخالفين " [9] ، بل لقد ذهب بعضهم، كما قال الحجوي ، إلى " أن المهدي المنتظر، إذا ظهر، بل عيسى ابن مريم ، إذا نزل آخر الزمن، فإنما يقلدان أبا حنيفة ، ولا يخالفانه في شيء! فسدوا بهذه الأفكار، التي تحكمت من نفوس العلماء، والأمراء، باب النظر في الكتاب والسنة " [10] فكيف بعد ذلك يتجرأ أحد على فتح باب الاجتهاد ؟ وكيف ينبغ في الأمة مجدد مبدع، إلا أن يعاني الأمرين من أهل التقليد، ووسطاء الفقه؟! فكيف وقد تعلقت القلوب في تدينها بالأشخاص، مما دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالكتب مما سوى كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ؟! فالمدارس لا تدرس إلا مدونة فلان، أو فتاوى علان، والطلبة [ ص: 46 ] لا يعكفون إلا على نوازل فلان، أو أقضية علان، حتى آل الأمر بالأمة إلى تدوين كتب، هـي جملة ما يعملون به من الفقه، في بعض الأمصار، ولا يلتفتون إلى ما سواها، من غير دليل، ولا برهان، من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما يصدق فيهم قوله تعالى: ( قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ) [الأنبياء:53]، أعني ظهور ما سمي في الفقه لدى بعض البلاد، (بالعمل) ، كالعمل الفاسي، والعمل السوسي، والعمل الأندلسي ... الخ. وهي كتب، حوت ما جرى عليه العمل في الفقه، بمنطقة ما، تكون هـي النص، الذي لا يقدم، ولا يؤخر عليه، في مجال الفتوى، اجتهاد مجتهد، أو تجديد مجدد، ولذلك فقد ساق العلامة المجدد المصلح أبو إسحاق الشاطبي ، المتوفى سنة 798هـ ، قوله تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) [التوبة:31]، ثم قال معلقا: " فتأملوا يا أولي الألباب، كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال، من غير تحد للدليل الشرعي " [11] إن الوساطة الكلامية ، قد شكلت عقائد الناس تشكيلا، فصارت العقيدة الإسلامية في صورة فلسفية، وفقدت بذلك رونقها القرآني، وثمرتها التربوية، وبقيت تصورات في أذهان الناس تقرب أو تبعد عن القصد الشرعي، لكنها جمدت، ولم تبق لها حركيتها التي تخرج عليها جيل الصحابة الأوائل.

أما الوساطة الفقهية ، فقد كانت أدهى وأشهد إذ ربطت التعبد اليومي في حياة الناس، بوسطاء مارسوا نوعا من الكهنوتية على تدين [ ص: 47 ] الجماهير، ولست أقصد أئمة المذاهب الأوائل، أبا حنيفة ، ومالكا ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأضرابهم، ممن عاش في فترتهم، فهؤلاء كانوا ضد التربية الوساطية، وضد احتكار الاجتهاد، والتجديد، كما تبين في موضعه سابقا، وإنما القصد ما صنعه الأتباع المقلدة، من بعد، فإن كثيرا من هـؤلاء، إلا من رحم الله، قد حجر القول الفقهي الواسع، وخلع على أقوال إمامه، ما لم يخلعه ذلك الإمام على نفسه! ومنعوا منعا متحكما، أن يقول أحد من بعده بالاجتهاد والتجديد، فصاروا حماة للتقليد، رعاة له!

ويحكي الإمام الشاطبي قصة عجيبة، وقعت بالأندلس ، تدل على تعمق التفكير الوساطي، وتغلغله في عقول العلماء، وطلبة العلم، قال رحمه الله: " المقلدة لمذهب إمام، يزعمون أن إمامهم هـو الشريعة!... حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد، وتكلم في المسائل، ولم يرتبط إلى إمامهم، رموه بالنكير، وفوقوا إليه سهام النقد، وعدوه من الخارجين عن الجادة، والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي.. ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد ، حين دخل الأندلس، آتيا من المشرق، من هـذا الصنف الأمرين! حتى أصاروه مهجور الفناء، مهتضم الجانب... إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل، وأخذ عنه مصنفه، وتفقه عليه، ولقي أيضا غيره، حتى صنف (المسند) المصنف، الذي لم يصنف في الإسلام مثله.. وكان هـؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك ، بحيث أنكروا ما عداه، وهذا تحكيم الرجال على الحق " [12] [ ص: 48 ]

وقد تدنى الانحطاط الفقهي أكثر، في القرون المتأخرة، وترسخت وساطته بصورة أردأ، ابتداء من القرن الثامن الهجري، حيث دخل الفقه مرحلة ما سماه مؤرخو التشريع الإسلامي: (بدور المقلد المحض) [13] .. فالوساطة الفقهية ، في هـذه المرحلة قصرت هـمتها عن تقليد إمام المذهب المجتهد، كمالك ، والشافعي ، ونزلت إلى تقليد فقيه المذهب المقلد! فصار المقلدة يقلدون مقلدة مثلهم! وهذا أشنع من الأول وأفظع! وخير من يصف لنا هـذه الحال، هـو الإمام الشاطبي ، الذي عاين بداية هـذه المرحلة في القرن الثامن، حيث قال: " نابتة في هـذه الأزمنة، أعرضوا عن النظر في العلم الذي هـم أرادوا الكلام فيه، والعمل بحسبه، ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ، الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا ... ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال " [14] ثم قال الحجوي معلقا على تطور التقليد، إلى تقليد التقليد، أو التقليد المركب: " ثم في الأخير قصورا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور.. ومن اشتغل بالحواشي، ما حوى شيء " [15] إن الآثار التربوية للفقهاء، باعتبارهم موجهين لتدين الجماهير، بمختلف شرائحهم الاجتماعية، لذات خطر عظيم، إما سلبا أو إيجابا. فإما أن يربطوا الناس في التزامهم العملي، بالقرآن والسنة، [ ص: 49 ] أو بأقوالهم، أو أقوال شيوخهم.. وبعبارة أخرى:إما أن يكونوا مربين للأمة، يصلونها بالله، أو وسطاء عليها، يحجبونها عن الله!

والفقه الإسلامي، باعتباره مادة التدين الإسلامي، يعتبر من أكثر العلوم الإسلامية، حضورا في المجال التربوي، ولذلك فهو سيف ذو حدين: إما أن يكون فقه اجتهاد، وهو الذي يربط الناس بالنصوص الشرعية، استدلالا، واستنباطا، وإفتاءا، وكذلك كان دور الفقهاء من الصحابة والتابعين، وأتباعهم، وفقهاء الأمصار، الذي ربوا بفقههم الأجيال الأوائل، فكان منهم العلماء العاملون، والجنود المجاهدون، وإما أن يكون فقه تقليد، وهو الذي يربط الناس بأقوال الرجال، ويضعها موضع النصوص، يقيس عليها، ويستدل بها، ويفتي بناء عليها، فيفقد الفقيه حينئذ دور المربي، وينتحل دور الوسيط، فيجعل من نفسه، وأشياخه، سلطة تحكمية، ذات قداسة، لا تتصور شرعا، إلا في حق الله سبحانه وتعالى .

وأختم هـذا المبحث، بتقديم نموذج من فقه التقليد، ينطق بنفسه عن وساطة ظاهرة، تجعل من الفقيه شخصا شبه أسطوري، وتجعل متنه نصا مقدسا، تستنبط منه العلل والأحكام!

التالي السابق


الخدمات العلمية